قبل اللقاء الأول والحميم الذي جمع رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الأميركي، في شباط من العام الماضي، والذي كانت نذر مخرجاته واضحة حتى قبل أن يبدأ رئيساً في البيت الأبيض ينتظر لاستلام الطلبات الإسرائيلية لتحويلها إلى خطة عمل أميركية للمنطقة، قبل اللقاء التقى نتنياهو مستشاريه لوضع أولويات المطالب من الرئيس الأميركي.
وضع مستشارو نتنياهو أولويتين، عليه وضعهما على طاولة دونالد ترامب، قائلين له: لا تتحدث معه عن القدس وليس من الضروري أن يعلنها عاصمة لإسرائيل، فإسرائيل تسيطر على المدينة بشقيها وتكرسها بالأمر الواقع عاصمة لها، فلا داعي لأن يضيع وقته مع الرئيس لتحقيق شيء تحققه الوقائع، لكن اطلب من الرئيس الأميركي إعادة فتح الاتفاق مع إيران وحصارها.. هذا أولاً. وثانياً اطلب منه أن يضغط على الدول العربية وبالذات الخليجية لإشهار علاقاتها السرية مع إسرائيل.
بعد أكثر من عام ونصف العام، ماذا يمكن أن نفهم؟ لقد انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق مع إيران وقد أهدى الرئيس الأميركي اعترافاً لإسرائيل بالقدس عاصمة لها، وذلك سخاء لم يطلبه حتى نتنياهو، لكن الأهم الذي يتحقق وهو التطبيع إعلان الدول العربية علاقات مع دولة الاحتلال، وذلك كان هاجس نتنياهو وعدم ربط ذلك بالحل مع الفلسطينيين، بل إن ليبرمان كان يتحدث عن حل مع العرب وما أسماه آنذاك «الحل الإقليمي».
كانت أخبار نهاية الأسبوع سيئة على هذا الصعيد، حيث إن هناك ثلاث دول خليجية تستقبل وفوداً إسرائيلية: إحداها تفتح أذرعها ل بنيامين نتنياهو نفسه، وأخرى تستقبل وزيرة متطرفة، وثالثة تستقبل وفداً رياضياً، كأن إسرائيل تنفتح بشكل طبيعي أو كأن نبوءة مستشاري نتنياهو تتحقق.. تلك النبوءة التي لم تصمد أمامها المبادرة العربية التي وضعت العلاقات مع إسرائيل كجزرة إغراء إذا ما وافقت إسرائيل على حل مع الفلسطينيين.
كانت المبادرة العربية نفسها تعبّر عن حالة الإفلاس العربي واعتراف العرب بعدم امتلاكهم أوراقاً حقيقية للعمل ضد إسرائيل، فتلك كانت آخر أوراقهم، وها هي تتهاوى الآن وفقاً للخطة الإسرائيلية أو الرغبة الإسرائيلية، تاركين خلفهم الفلسطينيين وشأنهم في أسوأ مراحل التاريخ العربي انحداراً، حيث يقف عارياً أمامنا بكل هذا الوهن الذي نشاهده.
الأسوأ أن إسرائيل التي اخترعت المعادلات مع العرب اكتشفت أن العرب أكثر ضعفاً من تصوراتها التي وضعتها، فنظرية الأرض مقابل السلام هي نظرية صاغها ديفيد بن غوريون عام 1948، حيث استهوته لعبة ابتزاز العرب باحتلال أراضيهم، ثم يعيدها لهم مقابل ثمن وهو السلام، وتلك أيضاً ظلت تُلهم وريثه رئيس أركان حرب 67 إسحق رابين الذي وضع خطة الاحتلال ونفذها وعندما سُئل عن عدم فرحته بالسيطرة على الأراضي قال: تلك سنعيدها لأصحابها مقابل السلام.
ظل العرب يرددون هذا الشعار كأنه اختراع عربي جرى سريانه في أروقة السياسة العربية، ثم هبط العرب أكثر نحو معادلات أكثر انحداراً مثلتها قمة بيروت في جزرة الإغراء إلى أن نشهد نهاية لتلك المعادلات التي وضعتها، ولم يبق الأمر سرياً حسب ما كان يفاخر به ليبرمان أو نتنياهو حول علاقات مع أكثر من عشر دول عربية في السر، ويبدو أن مخرجات لقاء نتنياهو ترامب آخذة بالتحقق والتنفيذ بسرعة شديدة، فتلك ليست مصادفات بل برامج ومشاريع وضعت على الورق ثم على الطاولة وصولاً لترجمتها على أرض الواقع.
أمام الذي يحصل في الإقليم، بات من الواضح أن ورقة القوة قبل الأخيرة التي لدى الفلسطيني تتساقط ولم يعد لا عصا ولا جزرة عربية، رغم أن خيار العصا انزاح جانباً منذ عقود طويلة، ومنذ أن عرف العربي قدر نفسه أو قدر عجزه أمام دولة كانت تبني نفسها وجيشها فيما كان العرب يبنون إقطاعيات هشة لم تصمد أمام أضعف الرياح وليس أشد العواصف.
المؤسف أكثر أن ورقة القوة الوحيدة أو الجدار الأخير للفلسطينيين هو وحدتهم أمام تلك التحولات وانهيارات التربة في الإقليم وتسابق الدول العربية نحو إسرائيل تحت وطأة الرغبة الأميركية تاركين الفلسطيني خلفهم، وتلك الورقة كانت قد تبددت حتى قبل كل التطورات في المحيط التي أدت بها الاهتزازات في الدول العربية لتسقط جميعها في الجيب الإسرائيلي.
المشهد الفلسطيني لا يسر صديقاً ولا يكيد عدواً، وهذا أسوأ من كل ما يحدث، حيث التفتت الداخلي والصراعات هي المسيطرة على الساحة الفلسطينية، وغياب المؤسسة الجامعة والبرنامج الواحد، وحديث عن حلول إنسانية، ولا مفاوضات مع إسرائيل لتحقيق دولة وتخوف من مشاريع أميركية، وذعر من « صفقة القرن » وفصل غزة .
كل هذا لا يجعلنا قادرين على التفاؤل والخشية كبيرة، صحيح أن هناك مشاريع لم تتوقف على امتداد العقود الماضية، لكنها سقطت أمام وحدة وإرادة الفلسطينيين، لكن الآن تبدو مصداتنا الداخلية أكثر ضعفاً من أي وقت مضى؛ حيث تم تقزيم المشروع الوطني إلى مشاريع حزبية وتلك أيضاً تراجعت من مناخات الإحباط نحو مشاريع شخصية بدأت تطل برأسها وإن على خجل.
ليس أمام الفلسطيني الذي يقف وحيداً سوى نفسه، وإن كنا نعرف نحن الكتاب أن دعوة الوحدة أصبحت منبوذة، بل ومشبوهة بالنسبة للقابضين على جمرة الانقسام والصراع على السلطة، وإن أحرقوا أيدي الوطن وأقدامه وأشعلوا النار في جسد المشروع الوطني سنظل ندعو لأنه لا بديل... كفى لهذه الصراعات التي تعكس مستوى إدارة مشروعنا الوطني لنكتشف قدرتنا على ضعف الصمود وأسباب ما حدث ويحدث لنا... فهل نفهم؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية