يستوقفني الكثير من الناس ويسألون:
ـ لوين رايحين يا أستاذ؟
ـ هل هناك مخرج من هذا الوضع؟
ـ هل باستطاعتنا مناطحة أميركا؟
ـ إسرائيل أكلت الأخضر واليابس فماذا تبقّى لنا؟
ـ العرب يتوددون لترامب وينتظرون التفاهم مع إسرائيل، فهل يمكن المراهنة عليهم؟
ـ المصالحة انتهت، والجماعة في غزة لم يعد يهمهم إلاّ المحافظة على أنفسهم ودورهم، فكيف لنا الخروج من هذا المأزق؟
ـ ما الذي سيمنع إسرائيل من فرض الحل؟ ألا يمكنها في ظل هذا الوهن والانقسام والعجز العربي والتخاذل الدولي أن تحاصر التجمعات السكانية في الضفة، وتحول حياتهم إلى جحيم لمنع امتداد المقاومة الشعبية؟
ـ أليس وارداً قيام كيانات مناطقية على أنقاض السلطة إن هي رفضت الحل الإسرائيلي والأميركي؟
ـ الناس مستعدة للتضحية دائماً لكن، من أجل ماذا، وبأي هدف؟!
ـ أليس الصراع الداخلي على الكراسي والنفوذ؟
ـ أليس وارداً أن تشنّ إسرائيل حرباً جديدة على غزة؟! فإذا ما تم ذلك إلى أين يمكن أن تصل الأمور؟
ـ الناس تريد أن تعرف إلى أين...؟!، ما الهدف، ما الوسيلة، وإلى أين يمكن أن نصل؟
هذه مجرّد نماذج من أسئلة الشارع. هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الشارع على الكتّاب وصنّاع الرأي، وعلى السياسيين، وعلى القوى السياسية كل يوم وكل ساعة.
من يملك إجابات عن كل هذه الأسئلة؟
ومن لديه القدرة والشجاعة على قراءة المدلول في هذه الأسئلة؟
الجواب: لا أحد.
الذي يطغى على المشهد هو أن معظم القوى السياسية، إن لم نقل كلها تتأرجح بين برامج وخطط يغلب عليها الشعار، وتغيب عنها شخصية المخاطب، ويتوه في ثناياها الفعل الملموس.
لغة تميل نحو تحديد «الموقف» بمعزلٍ عن الموضع، لغة فيها خرائط سياسية وتغيب عنها الجغرافيا الاجتماعية. المنهج الرئيسي ذرائعي، وأدواته تبريرية وليست تفسيرية، تحوم حول المشكلات والأزمات دون الدخول إلى معترك الحلبة الحقيقية للصراعات.
لا تؤمن برحابة وسعة مساحة الاعتقاد إلاّ بقدر ما تضيف مساحة حرية الانتقاد.
القوى السياسية لدينا تمارس دور وكيل النيابة، ودور المحامي ودور القاضي، وهي التي تعقد المحكمة، وتمدد جلساتها، كما لا تتردد في انتقاء الشهود، وتصدر الأحكام في كثير من الأحيان قبل جلسة المحاكمة.
عندما يكون هذا الواقع هو واقع القوى السياسية، فلماذا نستغرب أسئلة الناس؟، وحتى لو أن هذا الواقع اختلف كثيراً أو قليلاً عن الصورة التي وردت، أليس هذا هو انطباع الناس؟
أما بالنسبة للكتّاب والصحافيين وصنّاع الرأي والنخب المثقفة، فالأمر لا يختلف جوهرياً عن الصورة.
تبدو الصورة هنا «مثقفة» قليلاً، وتقوم على أرضية السيناريوهات المحتملة أو المتوقعة، وهي سيناريوهات تفتقد في الغالب منها إلى الحدود الفاصلة الضرورية بين الذاتي والموضوعي في تحليل الظواهر والحالات، بين الحقائق والوقائع، وبين سهولة تسجيل التاريخ وصعوبة صناعته. التشاؤم فيها متأتٍ من «قدرية» مبطّنة، والتفاؤل فيها مسحوب على حوامل اجتماعية غامضة.
سيناريوهات عصية على الفهم، لأن فرضياتها سياسوية وليست اجتماعية.
تزخر بإغواء اللحظة في توازنها «الواقعي»، وتخلو في معظم الأحيان من القدرة على قراءة هذه اللحظة في عدم توازنها المؤقت.
ومع ذلك لا تخلو السيناريوهات والتوقعات من أهمية، بل ويمكن القول بأنها ضرورية في قراءة الواقع القادم، وهي إحدى آليات التخطيط للمستقبل، لكنها لا تصلح لتكون كذلك إلاّ إذا استندت لعناصر توازن القوة والقوى الكامنة فيها، وإلاّ إذا فصل ما بين لحظتها المؤقتة واتجاه مسارها الدائم أو النزعة الرئيسية في هذا المسار.
أما فيما يتعلق بما تعجّ به وسائل التواصل الاجتماعي من أفكار وآراء وتوقعات (وقد أصبحت هذه الوسائل أداة فعالة في صناعة وصياغة الوعي المجتمعي) فالأمر هنا بقدر ما هو منوع و»غنيّ» فهو مقلق بل وحتى مرعب في مدلولاته وما يؤشر إليه وما يمكن أن يؤدي إليه.
وكذلك هنا يلاحظ وجود أفكار غنية ومعللة وتعكس قدراً عالياً من الوعي والمسؤولية، إلاّ أن معظم الآراء الواردة على هذه المواقع وفي اطار هذه الوسائل يغلب عليها الطابع العشوائي النابع من رحم اليأس والاحباط.
هنا نلاحظ تنبؤات تختلط بالتوقعات، وشمشونيات تتداخل مع خنوع وانكسار داخلي محزن.
نجد علماء بلا علم، وفلاسفة دون أن يقرؤوا حرفاً واحداً فيها.
هنا تتحول الرغبات إلى برامج سياسية، وتتحول التحولات الاجتماعية إلى آليات تتحقق بفعل الأمر.
وهنا أيضاً تختلط الغيبيات بالواقع، ويتحول الفعل السياسي والشأن السياسي إلى ضرب من ضروب التنجيم. وفي غياب القوى، وتعثر دور المثقفين، يبدو الوعي السياسي حقلاً للتجارب وميداناً للتدريب على الرماية. توقعات بلا فرضيات، وافتراضات بدلاً من أسئلة المرحلة.
هنا يئنّ الوعي تحت سياط كرابيج الجهل والتجهيل. هاكم مثالاً للتوضيح: صفقة القرن .
إذا قلنا إن الصفقة ستسير قدماً بغض النظر عن موقف الفلسطينيين والعرب منها فهذا سيناريو.
وإذا قلنا إن ذلك لن يحدث بهذه الطريقة لأن الفلسطينيين ومن بعدهم العرب لن يقبلوا بها (أي الصفقة) فهذا سيناريو آخر.
أما إذا قلنا بأن الفلسطينيين سيعارضون ثم يعترضون، ثم يحاولون إقناع العرب، ثم لن يتمكنوا من الاستمرار في هذا الاعتراض فهذا سيناريو ثالث.
وفي نفس السياق والاطار: إذا قلنا إن الولايات المتحدة تمضي قدماً وليكن ما يكون فهذا يدعم السيناريو الأول، أما إذا قلنا بأنها (أي أميركا) لن تتمكن من الاستمرار بالصفقة قبل تعديلات تروض الفلسطينيين، وقبل حفظ ماء الوجه للعرب فهذا يدعم السيناريو الثاني مما يوجب التعديل «الجوهري» عليها.
هذا السيناريو يمكن أن يتم الدمج بينه وبين السيناريو الثالث في استهداف واحد وآلية موحدة.
خلاصة القول: هناك غياب لليقين السياسي. وهناك غياب للهدف الكامن في هذا اليقين، ولا وجود للثقة المطلوبة للوصول إلى هذا اليقين.
أما السيناريو الأهم في قراءة الواقع القادم فهو غياب السيناريو الذي يمكننا من معرفة السيناريو والذي بدوره سيساعدنا على قراءة القادم.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية