كلام زعماء العالم في الجمعية العامة للأمم المتحدة يمكن وصفه «بالخطاب» إلاّ كلام الزعيم الفلسطيني، فهو مرافعة وليس مجرّد خطاب.


وقيمة وأهمية هذه المرافعة تكمن أولاً وقبل كل شيء في اللحظة السياسية وهي لحظة تتشابه مع ما يسمى بجلسة النطق بالحكم.


مرافعة الرئيس هذه المرّة ستكون فاصلة بين مرحلتين. مرحلة انتهت وودعت المشهد السياسي/ وغادرت بعد أن عجز العالم عن إلزام إسرائيل بالسلام، وفشل في لجم هوسها التوسعي والعدواني، واكتفى بالاستنكار والشجب، حتى وصل اليمين الأميركي المتصهين إلى سدة البيت الأبيض، ودشن المرحلة الجديدة التي تتصف اليوم بانتقال الولايات المتحدة الأميركية من موقع الوسيط المنحاز لإسرائيل إلى موقع المشارك المباشر في دعم السياسات الإسرائيلية بصورة مباشرة وعلى رؤوس الأشهاد.


نحن لم نكن قبل هذه اللحظة في مرحلة السلام، ولم نكن سوى أمام «فرصة» ضعيفة لهذا السلام في فترة فصلت بين العام 1994 والعام 2000.


كانت هناك مثل هذه الفرصة الضعيفة، لكن إسرائيل لم تكتف فقط بتفويتها ومحاولة الالتفاف عليها وعرقلة مسارها.. وإنما تعمدت إسرائيل وخططت ونفذت سياسة توجيه اللكمات القوية لهذا السلام حتى ترنّح وكاد يسقط صريعاً على الأرض إلى أن جاء ترامب ونحر السلام وأجهز عليه.


نعم سيسجل التاريخ للرئيس ترامب «مأثرة» الإجهاز على السلام في هذه المنطقة، كما سيسجل لليمين المتطرف في إسرائيل «مأثرة» الرقص في حلبة موت هذا السلام.


الزعيم الفلسطيني صمد كما لم يصمد أحد، وصبر كما لم يصبر أحد، وتحمّل هو وشعبه كما لم يتحمّل أحد، باحثاً عن أية فرصة لهذا السلام المفقود قبل أن يذبحه ترامب.


مع رابين ثم مع بيريس فايهود باراك فشارون ونتنياهو فأولمرت فنتنياهو دون جدوى.


وبدلاً من أن تأتي الإدارة الأميركية بالأفكار التي يمكن أن تصنع السلام (حتى ولو كان مجحفاً)، لأن السلام وفق الشرعية الدولية هو أصلاً غير عادل ومجحف بحق الشعب الفلسطيني .. بدلاً من ذلك جاءت هذه الإدارة لنسف كل ما كان القانون الدولي والمجتمع الدولي قد توافق عليه من أسس، ومرجعيات، واتفاقيات، منذ عدة عقود من الزمن، بل وجاءت هذه الإدارة لتتجاوز الكثير من المرجعيات الخاصة بالولايات المتحدة منذ عهد ريغان وحتى يومنا هذا.


وبدلاً من دراسة تجربة العقود السابقة حول تعثر عملية السلام، فقد جاءت لتصفية حقوق الشعب الفلسطيني للوصول إلى هذا «السلام».


لم يشهد التاريخ المعاصر كله أن اقترحت دولة كبيرة تتوسط في أي نزاع من نزاعات العالم تصفية حقوق أحد أطراف النزاع للوصول إلى «السلام».


السؤال الذي يجب أن نعرف كيفية الإجابة عنه هو: لماذا قامت الولايات المتحدة تحت هذه الإدارة بكل هذا الصلف، وهذه الحماقة وهذه العنجهية؟


وما علاقة الإجابة على هذا السؤال بمرافعة الرئيس؟ صحيح أن العلاقة التي تربط بين اليمين المتصهين في الولايات المتحدة واليمين العنصري المتطرف في إسرائيل قد ساعدت في «تجرؤ» ترامب على هذا النهج التدميري المتهوّر، وصحيح أن حالة العجز والفشل والارتهان العربي للإدارة الأميركية قد شجعت هذه الإدارة على الإقدام على ما أقدمت عليه، وصحيح أن هشاشة البيت الفلسطيني واستمرار وتعمق الانقسام والسعي الحثيث لتحويله إلى انفصال عن الجسد الوطني بالنظر إلى سياسات حركة حماس في القطاع، وما وصلت إليه من تساوق مفضوح مع الاحتلال ومع ترامب قد سهلت على الرئيس ترامب مهمة الذهاب بعيداً في الاستهانة بالشعب الفلسطيني والعمل على تقزيم حقوقه وتحويلها إلى حقوق معيشية... إلاّ أن مربط الفرس ليس هنا بالضبط، بالرغم من أهمية كل العوامل في دفع الإدارة الأميركية نحو هذا التهوّر والمغامرة.


لم يكن ممكناً أن تشن الولايات المتحدة هذه الحرب المعلنة على الشعب الفلسطيني وحقوقه وقيادته ومؤسساته لولا أن فلسطين قد تحولت إلى حقيقة سياسية راسخة وقوية، إلى درجة أن وقف تحولها إلى حقيقة سيادية (والتعبير لحسن البطل) بات صعباً أو مستحيلاً دون شن هذه الحرب.


إذن هذه الحرب ليست نزوة من الرئيس الأميركي العجيب، وليست مجرد جهل من هذا الرئيس .. فقط كنا نراهن على أن لا يكون جهله بالقدر الذي يبدو عليه، وهو جاهل بالفعل وأكثر مما توقع أحد في هذا العالم، ولم يكن تبجحه الأرعن ناتجاً عن حالة من النرجسية المريضة والمزمنة.. المسألة كانت ولا زالت أخطر من ذلك وأعمق من ذلك.


حرب وقائية كاسحة على الشعب الفلسطيني قبل أن تقع (الفاس في الراس)، أي قبل أن يصبح منع قيام الدولة الفلسطينية أمراً مستحيلاً. لقد تدارس اليمين الأميركي المتصهين مع مهووسي اليمين العنصري المتطرف في إسرائيل الأمر بعناية وعمق «ووصلوا» إلى قناعة راسخة بأن لا مناص من هذه الحرب على الشعب الفلسطيني، وأن لا سبيل سوى بالهجوم الكاسح عليه. في هذه اللحظة الفاصلة والفارقة من الناحية التاريخية تأتي مرافعة الرئيس في الأمم المتحدة.


مرافعة ستضع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي أمام لحظة المسؤولية، وأمام أفعال وليس أقوال، وأمام الاختيار بين السلام والحرب، وبين العدل والظلم، وبين الحق والباطل.
وإذا كان العالم مستعداً للاختيار بينهما وهو قادر على الانحياز الفعال، فلا أقل من الحماية الدولية، ولا أقل من الاعتراف بحق دولة فلسطين بالاستقلال الوطني الناجز، ولا أقل من قطع الطريق نهائياً على خيار استمرار الحرب من أجل شق الطريق الحقيقي نحو السلام والعدل. وإلى أن يتم ذلك (وسيتم) فليس لدينا ما نقدمه للسيد ترامب وزبانيته في إسرائيل سوى العزل والزجر وتفعيل مؤسسات القانون الدولي ولينحشروا، ويحشروا أنفسهم بأنفسهم في مواجهة العالم ومؤسسات العدالة الدولية وفي أوهام القوة التي يعبثون بها.


مرافعة الرئيس بكل هذه المعاني هي القول الفصل الذي سيسمعه العالم، كل العالم باسم الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني بمن فيهم بعض هواة السياسة الذين لهم ميليشيات مسلحة تزيّن لهم أن فلسطين مجرد ورقة أو أداة سياسية أو غطاء للتستر خلفه في لعبة الأمم والمحاور والجماعات.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد