لقد جاء إعلان المبادئ في "أوسلو" في الثالث عشر من أيلول/سبتمبر عام 1993، لي فتح عهداً جديداً في تاريخ الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، ويشكل تحولاً نوعياً على مسار القضية الفلسطينية. أما الأسرى، فيمكن القول: أن سقف توقعاتهم قد ارتفع منذ اليوم الأول لتوقيع الاتفاق، خصوصا أولئك الذين ينتمون إلى حركة "فتح" وفصائل فلسطينية تؤيد الاتفاق، وهم يشكلون الغالبية العظمى. ولا نكون مبالغين إذا ما اضفنا بأن كثيرين منهم قد باتوا يعتبرون أنفسهم في عداد المحررين، وبانتظار اليوم الموعود للحرية.
كنت حينها معتقلاً في مردوان "3" قسم (د) في معتقل النقب الصحراوي، ويومها رُفع العلم الفلسطيني، ولأول مرة داخل السجن الإسرائيلي. وها أنا الآن أستذكر صور أخواني وزملائي الذين وزعوا حاجياتهم الخاصة، وأتلفوا كراريسهم الثقافية والتنظيمية، وأقاموا الاحتفالات فرحاً وابتهاجاً في سجونهم استعداداً لليوم القريب. فيما بعض الاسرى عبّروا عن رفضهم للاتفاق، واسرى الشعبية ارتدوا زيا اسودا، وفي أقسام أخرى وضعوا شارة سوداء على الساعد الأيمن، حزنا وحدادا.
ومرّت الأيام والشهور بطيئة وثقيلة، وقد تحقق شيء من ذلك بالفعل للكثير منهم، حين انطلقت أوسع عملية إفراج جماعية خلال الفترة الممتدة من "أوسلو1993" وحتى اندلاع "انتفاضة الأقصى2000"، والتي شهدت الإفراج عن نحو (11250) معتقلاً فلسطينياً وعربياً من سجون الاحتلال، من أصل (12500) معتقل كانوا في السجون لحظة التوقيع، وهؤلاء يشكلون ما نسبته (90%) من إجمالي عدد المعتقلين الفلسطينيين آنذاك. ومع اندلاع "انتفاضة الأقصى" لم يتبقَ في سجون الاحتلال سوى(1250) معتقل ممن كانوا معتقلين ما قبل "اوسلو" وقيام السلطة الوطنية الفلسطينية. وسبق واعددنا دراسة شاملة "العملية السلمية والأسرى: إخفاقات وانجازات".
أن تلك الإفراجات الواسعة لم تكن مجرد عدد كبير للمفرج عنهم، فلقد شملت المئات، ممن كانوا يقضون أحكاماً عديدة بالسجن المؤبد، وما دون ذلك، وقد شملت أيضاً العشرات من الأسرى العرب وأسرى الدوريات وأسرى القدس ومناطق 48، إلا أنها وبرغم ذلك فشلت في اطلاق سراح كافة الأسرى. الأمر الذي أبقى مئات آخرين منهم داخل السجون لسنوات وعقود طويلة تلت اتفاقية أوسلو، جزء منهم تحرر في إطار صفقة "شاليط"2011، وجزء آخر ضمن التفاهمات السياسية عام 2013، وما يزال منهم نحو (29) اسيرا يقبعون في السجون حتى كتابة هذه السطور.
وبرغم تلك النجاحات فان ثغرات عديدة يمكن ان تُسجل على (أوسلو)، ولعل أبرزها أنه لم يتضمن نصوصا صريحة تُلزم دولة الاحتلال بالإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين، وفق جدول زمني محدد. بالإضافة إلى غياب الضمانات الدولية، أما النصوص القليلة التي وردت في بعض ملحقات أوسلو والاتفاقيات اللاحقة فقد تحدثت في نصوصها عن أسرى الضفة والقطاع، دون أن تتضمن أي نص يتطرق إلى أسرى القدس، وأسـرى أراضي الـ 1948، والأسرى العرب الآخرين. ومع ذلك أفرجت الاتفاقيات السياسية، وفي مناسبات عدة، عن العشرات من هؤلاء.
إضافة إلى كل ما مضى، تعمدت دولة الاحتلال إضعاف عمل اللجنة الفلسطينية- الإسرائيلية المشتركة، الخاصة بآليات تحرير الأسرى. واستحدثت مصطلح (الأيادي الملطخة بالدماء)، حيث اعتبرت كلُّ يد قتلت يهوديا أو اشتركت في قتله هي يدا ملطخة بالدماء، وبالتالي فهي لا تستحق الخروج من السجن بموجب أي اتفاقية.
لقد تعاملت سلطات الاحتلال مع قضية الأسرى باعتبارها محكومة بحسن نواياها فقط. فجزأت قضيتهم الواحدة إلى أجزاء متعددة، وصنفتهم إلى فئات مختلفة، وفرضت العديد من المعايير والشروط حين اختيار المنوي الإفراج عنهم. لقد جادلت إسرائيل دوما بأنها لم تتنصل مما وقعت عليه بهذا الخصوص، فيما الواقع يؤكد بأنها لم تلتزم يوماً بتنفيذ ما أتفق عليه.
إن هذه الطريقة والآليات الإسرائيلية المجحفة في التعامل مع الأسرى، بعد أوسلو، هي ما أقام الدليل لدى الكثيرين من الأسرى - الذين لم يعلنوا موافقتهم على أوسلو - على أنهم لن يخرجوا جميعهم في نهاية المطاف في إطار هذه الاتفاقيات: فوضع المعايير يعني أن هناك من لا تنطبق عليه المعايير. أي أن هناك من الأسرى من سيظل في السجن، حتى تتغير الظروف، وتتبدل المفاهيم لدى دولة الاحتلال، أو أن يُطلق سراحهم في إطار صفقة تبادل، وهذا ما حصل بالفعل حينما نجحت المقاومة في فرض شروطها وإطلاق سراح الكثيرين منهم في إطار صفقة "شاليط"، لكنها فشلت هي الأخرى في اغلاق ملفهم.
وبغض النظر عما سُجل وما يمكن أن يُسجل على "أوسلو"، فان الحقيقة التي يجب أن يعلمها الجميع أن "العملية السلمية"، حققت العديد من الانجازات بالنسبة للأسرى، ونجحت ومنذ التوقيع على "أوسلو"، في الافراج عن ما مجموعه قرابة (13400) معتقل فلسطيني، كان آخرهم عام 2013، حينما تمكنت المفاوضات من الإفراج عن ثلاث دفعات من "الاسرى القدامى" المعتقلين قبل التوقيع على "أوسلو"، لكنها فشلت في الافراج عن الدفعة الرابعة والأخيرة. كما وعجزت عن وقف اعتقالات أخرى تنفذها يوميا قوات الاحتلال منذ "أوسلو"، وتصاعدت بشكل لافت مع بدء انتفاضة الأقصى عام 2000، مما ضاعف من أعداد المعتقلين.
ان قراءة احصائية في واقع وطبيعة الاعتقالات الإسرائيلية وحجمها منذ "أوسلو"، سنرى كم هي البيانات والأحداث صادمة، حيث سُجل نحو(115) ألف حالة اعتقال منذ توقيع اتفاقية "أوسلو" في الثالث من أيلول/سبتمبر عام 1993.
أن تلك الاعتقالات شملت كافة فئات وشرائح الشعب الفلسطيني، ذكورا واناثا، صغارا وكبارا، وان من بين تلك الاعتقالات سُجل اعتقال نحو (17) ألف حالة اعتقال لأطفال قاصرين و (1850) فتاة وسيدة فلسطينية. واليوم وبعد ربع قرن على توقيع اتفاق "اوسلو" ما يزال يقبع في سجون الاحتلال الإسرائيلي نحو (6000) اسير، بينهم (5) نواب في المجلس التشريعي، و(51) فتاة وسيدة، و(300) طفل، و(430) معتقل اداري.
ولم يقتصر الأمر على اتساع الاعتقالات فحسب، وانما لجأت سلطات الاحتلال الإسرائيلي الى توسيع سجونها، وافتتحت معتقلات جديدة، وصعدّت من اجراءاتها القمعية وأقرت مجموعة من القوانين والتشريعات بهدف التضييق أكثر على الأسرى والإساءة الى قضيتهم وتشويه مكانتهم القانونية.
وفي الختام يمكن القول: ان قوات الاحتلال الإسرائيلي تتخذ من الاعتقال التعسفي نهجاً منظما وممارسة مؤسساتية في إطار سياسة رسمية، حتى اضحت جزءاً أساسياً من منهجية سيطرة الاحتلال على الشعب الفلسطيني، وأداة لقمع واذلال الفلسطينيين، والوسيلة الأكثر قمعاً وقهراً وخراباً للمجتمع الفلسطيني، دون التزام أو أدنى اكتراث بقواعد القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
ومع ذلك فان كافة الاعتقالات التي نفذتها قوات الاحتلال، وبالرغم مما تتركه من آثار سلبية على الفرد والأسرة والمجتمع، إلا أنها لم تنل من عزيمة الشعب الفلسطيني ولم تكسر ارادته، ولن تثنيه عن مواصلة مسيرته النضالية من أجل الحرية والاستقلال وانتزاع حقوقه العادلة والمشروعة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية