لا شك أن الزعيم الراحل ياسر عرفات أراد من اتفاقية أوسلو أن يُجسّد على أرض الواقع البرنامج المرحلي، المعروف ببرنامج النقاط العشر، الذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني عام 1974م، والذي يبدأ بإقامة سلطة وطنية فلسطينية داخل فلسطين، تكون جسراً للعبور إلى الدولة الفلسطينية المستقلة على جزء من أرض فلسطين التاريخية، وأن يوجد من خلالها موطئ قدم يُصلح مدخلاً لتحقيق المشروع الوطني الفلسطيني، وأن يؤسس بواسطتها كياناً سياسياً وطنياً يبلور الهوية الوطنية الفلسطينية، ويُعطي الفلسطينيين جواز سفر معترفاً به وتمثيلاً دبلوماسياً أفضل، وأن ي فتح الباب لعودة آلاف النازحين واللاجئين إلى داخل فلسطين في الضفة والقطاع كتجسيد جزئي لحق العودة، وأن يُطلق سراح آلاف المعتقلين والأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال كمقدمة لتبييض السجون، وأن يحقق سابقة بانسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي من أجزاء من الأرض الفلسطينية ( غزة وأريحا).

ولا شك أيضاً أن قادة (إسرائيل) آنذاك قد أرادوا من اتفاقية أوسلو شيئاً آخر يناقض ما أراده الزعيم الراحل ياسر عرفات، فقد أرادوا من الضحية أن تعتذر لجلادها من خلال إدانة مقاومتها ووصمها بالإرهاب انتصاراً للرواية الإسرائيلية للصراع. وأن يعترف المجني عليه المغتصبة أرضه بشرعية استيلاء اللص على الأرض المسروقة، وحقه في إقامة دولته عليها، وأن تكون الاتفاقية غطاءً للاحتلال يستطيع من خلالها مواصلة السيطرة على الأرض بعد التخلّص من عبء إدارة السكان؛ ليواصل التهامها بالتقسيط وإقامة المستوطنات عليها. وأن يحصل بواسطتها على شريك فلسطيني يحفظ أمن الاحتلال والاستيطان، ويساهم في قمع المقاومة الفلسطينية. وأن يتخذها جسراً سياسياً يعبر من فوقه إلى كل العواصم العربية لتطبيع العلاقات معها، والتحالف مع بعضها ضد بعضها الآخر. وأن يؤجل قضايا القدس واللاجئين والمستوطنات والحدود للوضع النهائي إلى ما لا نهاية ريثما يتم فرض وقائع جديدة على الأرض.

بعد ربع قرن على توقيع اتفاقية أوسلو، ما أردناه نحن الفلسطينيين معظمه لم يتحقق، وما أراده العدو معظمه تحقق؛ فبدلاً من أن تصبح السلطة الفلسطينية جسراً للعبور نحو تحقيق مشروعنا الوطني الفلسطيني؛ أصبحت مقبرة له. وبدلاً من أن تكون وسيلة لتحقيق الأهداف الوطنية الكبرى المتمثلة في التحرير والعودة والاستقلال؛ أصبحت غاية بحد ذاتها و(إنجاز وطني) يجب الحفاظ عليه حتى لو كانت مُعيقة لتحقيق الأهداف الوطنية الحقيقية. وبدلاً من أن تكون كياناً سياسياً موّحِداً للشعب الفلسطيني؛ ساهمت في شرذمة وتفريق الشعب الفلسطيني، وإحداث الانقسام الفلسطيني المستمر منذ أكثر من عقد من الزمان. وبدلاً من أن تنشغل ببناء جيل فلسطيني يكمل شعلة النضال الوطني ويستكمل حُلم التحرير؛ أنتج طبقة من المترفين الفاسدين الانتهازيين، الراضعين من بقرة السلطة الحلوب، من أبطال التنسيق الأمني مع العدو، وأسود العقوبات ضد شعبهم.

والآن بعد ربع قرن على مشروع أوسلو، المتوّقف فعلياً منذ نهاية المرحلة الانتقالية عام 1999م وبعد سقوط الفرضية التي أُقيم عليها المشروع وهو حل الدولتين، إسرائيلياً بفعل التهام المستوطنات لأرض الدولة الفلسطينية المفترضة، وأمريكياً بفعل سحب حل الدولتين من التداول السياسي الأمريكي، وذهاب الإدارة الأمريكية في عهد ترامب إلى صفقة القرن التي تسعى لتصفية القضية الفلسطينية وليس حلها. بعد ذلك لم يعد بالإمكان المجادلة في جدوى مواصلة السير على درب أوسلو. بل الكل يعترف بأن أوسلو قد قاد الشعب الفلسطيني إلى مأزق وطني خطير، وأن الخروج من هذا المأزق أصبح واجب وطني، والتخلّص من عبء أوسلو وما تبعها من انقسام وحصار وعقوبات مصلحة وطنية عُليا.

وختاماً بمناسبة اليوبيل الأسود لاتفاقية أوسلو المشؤومة، ليس من المنطق والمعقول أن تكون قدراً لازماً للشعب الفلسطيني، يُكرّس الهزيمة، ويُجسّد الفشل، ويُرسّخ العجز، فلا خيار آخر سوى الخروج من مأزق أوسلو بمراجعة الفكر السياسي الذي قادنا إليها، وإعادة النظر في المشروع السياسي الذي انبثقت عنه، وفك الارتباط والشراكة الأمنية والاقتصادية مع الاحتلال، لتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي، شعبٌ مُحتل يُقاوم عدواً مغتصب لوطنه، بدون حواجز السلطة والاتفاقيات، أو على الأقل تغيير الفلسفة التي أُقيمت عليها السلطة ووظائفها الأمنية والمدنية والسياسية، لتكون سلطة الشعب المقاوم، وركيزة لدعم صموده، ورافعة للمشروع الوطني الفلسطيني، وهذا يحتاج لإعادة بناء السلطة والمنظمة على أساس الثوابت الوطنية والمشروع الوطني.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد