وكالة سوا الإخبارية

152-TRIAL- بإعلان فوز الباجي قايد السبسي في انتخابات الرئاسة التونسية، تكون تونس قد أنهت نحو أربع سنوات من الحكم الانتقالي، والوصول بربيعها العربي إلى خط النهاية، وبشكل ناجح إلى حدود بعيدة، أو على الأقل أكثر من نماذج الربيع العربي الأخرى، التي انطلقت، بعد شرارة الربيع التونسي، متأثرة به، ولكن ما حدث بعد ذلك أن كل بلد عربي ( نحو خمس بلدان عربية ) سار بعد ذلك بحراكه السياسي الداخلي بشكل مختلف، وكان ذلك الاختلاف _ بتقديرنا _ يعود إلى طبيعة التطور الاجتماعي الداخلي . وحدها تونس أنجزت ثورة بيضاء، بالكاد سقط خلال أربع سنوات عدد قليل من الضحايا، رغم أن شرارة الثورة بدأت بشكل ملتهب، حين أشعل الشهيد محمد بوعزيزي النار في جسده احتجاجا على البطالة والقمع الداخلي. ووحدها تونس واصلت السير بعد أن تم إسقاط نظام حكم الفرد، بهرب رأس النظام، زين العابدين بن علي، مبكرا، على الطريق الديمقراطي، الذي أتاح المجال لكل القوى للمشاركة السياسية، إن كان في الانتخابات البرلمانية أو الرئاسية، والتي شهدت خلال فترة ما بعد بن علي دورتين، هيمنت خلال الأولى منهما القوى الإسلامية، بقيادة حركة النهضة، التي تعد التمثيل التونسي للإخوان المسلمين، على نظام الحكم، وكان هذا أمرا طبيعيا، لعدة أسباب، وقد ظهر هذا، أي تفوق القوى الإسلامية، أيضا في الدول الأخرى التي نجحت في إسقاط نظام الحكم السابق : مصر، اليمن، وليبيا . لكن إخوان تونس، أو النهضة، كانوا أكثر حنكة وأكثر تعقلا من إخوانهم في مصر على سبيل المثال، فرغم سيطرتهم على البرلمان الأول بعد عهد بن علي، إلا أنهم آثروا أن يكون الرئيس من غير النهضة، المنصف المرزوقي، وحين تصاعد الاحتجاج ضد حكمهم، وقد ترافق هذا بالمناسبة مع احتجاج الشارع المصري، إلا انه في الوقت الذي كان محمد مرسي ومكتب الإرشاد يغلقون الأبواب أمام أية بادرة للاستماع للشارع وإشراك القوى الأخرى في الحكم، كانت "النهضة" على العكس من ذلك تماما تجلس مع اتحاد الشغل ومع الجبهة الشعبية، ويوافق على إجراء انتخابات عامة جديدة ومبكرة. انتخابات البرلمان أظهرت " انقلابا " لصالح نداء تونس برئاسة الباجي قايد السبسي رئيس البرلمان في عهد بن علي، ورغم أنه كان من الطبيعي ان تدعم النهضة حليفها المنصف المرزوقي، الرئيس المنتهية ولايته، وقد فعلت هذا في الجولة الأولى، والتي انتهت دون أن يحقق أي من المرشحين الأغلبية للفوز، ما فتح الباب للجولة الثانية، بين المرشحين اللذين تقدما في الجولة الأولى : السبسي والمرزوقي، إلا أن المفاجأة التي تستحق التأمل برأينا كانت في موقف النهضة في جولة الإعادة. المثير للانتباه هذه المرة كان إعلان النهضة موقف الحياد، وذلك استنادا إلى أن المؤشرات كانت ترجح فوز السبسي، ولكن في الحقيقة فان النهضة لم تهمل احتمال أن تشارك في الحكم، بعد الانتخابات، لذا فضلت عدم الانحياز لأحد المرشحين، ولمزيد من إظهار التحلي بالمسؤولية الوطنية، أشارت التقديرات إلى أن احد أهم دوافع النهضة لاتخاذ هذا الموقف، كان الحرص على وحدة البلاد، وعلى تكاتف كل القوى لإنجاح التجربة الديمقراطية الوليدة في البلاد . لابد من الإشارة إلى انه ورغم الإعلان عن محاولة اغتيال للسبسي عشية الانتخابات، إلا أن تونس والتي شهدت بدورها ظهور مجموعات متطرفة، كانت قد أقدمت على اغتيال رموز القوى اليسارية، مثل شكري بلعيد، إلا أن ارث تونس على صعيد التقدم المدني، سرعان ما لفظ الأفراد والمجموعات المتشددة والمتطرفة إلى خارج البلاد، وربما كان هذا الإرث هو ما ميز تجربة تونس وأنجحها، وما زال يعتبر ضمانة التقدم بها على طريق الديمقراطية الدستورية والبرلمانية، التي تضمن حقوق الأقليات وسيادة القانون وحقوق الأفراد . أكثر من ذلك فان الرئيس التونسي لن يكون حاكما فردا، فهو وإن كان هذه المرة، أي السبسي يحكم في ظل أغلبية تتبع حزبه أو تجمعه السياسي " نداء تونس " إلا أن نداء تونس نفسه، ما هو إلا تجمع سياسي، وقف من اجل كبح جماح تحول البلاد لدولة دينية، ومن اجل الإبقاء على الطبيعة المدنية للدولة وعلى وحدتها، لذا فانه لن يكون أداة لتكريس نظام جديد من حكم الفرد، وعلى الأرجح أن يتم تدشين نظام حكم مختلط، رئاسي / برلماني، ومن الممكن أن يحدث هذا الاختلاط في دورة قادمة، حين يكون الرئيس ينتمي لحزب أو اتجاه سياسي، في حين تكون الأغلبية البرلمانية تنتمي لحزب أو اتجاه سياسي آخر . المهم في الأمر أن وصول التجربة التونسية إلى هذه النهاية السعيدة، تسعد كل المخلصين من العرب، الذين لم يفقدوا ثقتهم بالحراكات الشعبية رغم الانتكاسات هنا وهناك، بسبب الإرث الثقيل الذي أوجع فيه نظام حكم الفرد المجتمعات العربية، كما أن التجربة التونسية تشكل نموذجا يحتذى، ليس فقط في استلهام شرارة الربيع وروح الثورة وحسب، بل أيضا في مواصلة الطريق من اجل إقامة البديل حيث أن مهمة بناء الجديد أصعب من مهمة هدم القديم، كما أنها تؤكد انه يمكن للعرب أن يحققوا _ أخيرا _ نموذج الدولة المدنية التي تنتمي للعصر، والتي تثير اعتزازهم أمام الأمم، فالعرب أولا وأخيرا بشر ينتمون لهذا العالم ويعيشون اللحظة بكل تفاصيلها، ولابد لهم أن ينجحوا في تحقيق أهدافهم في نهاية المطاف !
Rajab22@hotmail.com

56

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية