سألني ابني ياسر عرفات بعد أن عاد من المدرسة إذا ما كانت الملائكة قد نزلت وقاتلت معنا في حرب (عدوان) 2014، وإذا ما هزمت اليهود مع المقاومين. بدا سؤاله طبيعياً لطفل عاد لتوه من المدرسة بعد أن استمع إلى حصة مدرسية كاملة من مدرس التربية الدينية حول شيء أكبر من مقدرة طفل لم يبلغ العاشرة على الاستيعاب. الملائكة تنزل وتقاتل.. شيء كبير وغريب. الطفل الذي لا يمكن له أن يتخيل شكل الملائكة، طبعاً لا يوجد بشر سوى الأنبياء يعرفون شكل الملائكة، فتحت المعلومة شهيته على أسئلة كبيرة عن الوجود وعن الملائكة التي يمكن لها أن تنزل وتقاتل وتنتصر بسهولة. 


مدرس التربية الدينية يمضي وقته في محاولة غسل أدمغة الأطفال وشطف كل خير وبريء فيها لصالح دعايته الحزبية الضيقة. لا يمكن له أن يتخيل الدمار الذي يحدثه في عقولهم طالما كانوا سينقادون بعد ذلك لتعليماته باتباع حزبه وطريقته في التفكير وربما يحرضهم على أهلهم دون وازع ولا تردد. طبعاً عليك أن تتخيل أن أساطير السلف الصالح والقصص التي بلا مرجع من باب "روي عن أحد الصالحين" أو ورد في الأثر وما إلى ذلك تعج بالقصص والحكايات التي تثبت كل شيء يقوله لهم، لأن التاريخ وهو مضى ولا يمكن التحقق من الكثير من وقائعه يحمل معه بشائر يفتقر لها الحاضر ويعز نظيرها فيه. 


وإذا ما تأملنا في المادة التي كان يجب أن يلتفت إلى تعليمها للتلاميذ، لا أن يحاول غسل أدمغتهم وتلويثها بمعتقداته وخرافاته عن الدين التي يبرأ الدين منها إلى الله، فإن التربية فيها تأتي قبل الدين لأن الدين هو الأخلاق ولأن جوهر الدين هو التربية الصحيحة للروح لا تدمير الروح عبر الأكاذيب.


ولو أن الرسل جاؤوا للبشر بما يفوق عقولهم ومقدرتهم على التفكير ما آمن أحد، ولو أنهم أمروهم بالقيام بأي شيء ينافي المنطق لما فعلوا ولما اتبعهم أحد. وعليه كانت المعتقدات وتفاصيل العبادات بسيطة وقريبة من فهم ووعي الناس، بل إن بعضها كان تصويباً لممارسات موجودة مثل التضحية والصلاة والحج وكل ذلك. وهي أركان وجدت قبل الإسلام مثلاً ومارسها العرب لكنهم كانوا يقومون بها بطرق مختلفة لذلك جاء الدين وصوب هذه الممارسات وجعل الصلاة خالصة لله، وجعل التضحية والذبح لله وحده لا للأزلام والأصنام، وجعل الحج عبادة وليس ممارسة وثنية. من هنا كان المنطق هو أساس الإيمان، وكان بحث إبراهيم عليه السلام عن الله ليعبده بعد أن غابت الشمس وغاب القمر ولم يثبت إلا الذي لا يزول، أساس عملية البحث عن سؤال العبادة، والبشر حين بدؤوا رحلتهم في الإيمان اعتقدوا بالقوة التي يجب أن تكون لدى الخالق لأن الخالق أكبر من المخلوق وأكثر جبروتاً من قوة الطبيعة التي اهتدوا إليها في البداية من عبادة النار والريح والمطر وكل ما يحتويه المعبد الكنعاني والبابلي واليوناني. 


وبالعودة إلى الجرائم التي يرتكبها المعلمون في المدارس جهاراً نهاراً وهم يحاولون تلويث عقول التلاميذ في خيانة واضحة للأمانة التي عهدها لهم ذووهم حين أرسلوهم إلى داخل أسوار المدرسة. هذه الخيانة تستحق العقاب وتستحق من الوزارة ومن السيد وزير التعليم العقاب، حتى لا تتحول مدارسنا إلى مغاسل للعقول ومجمعات تلويث لها، لأن من يريد أن يقنع طفلي أن الملائكة نزلت لتقاتل معه إنما يريد أن يجعل هذا الطفل عرضة لكل أنواع الأكاذيب والافتراء، يريد أن يستلب عقله ويسرق مقدرته على التفكير والإبداع، وبالتالي حشوه بما يريد. 


تاريخياً لم يثبت أن الملائكة قاتلت مع أحد إلا في معركة بدر، أول لقاء بين الحق والباطل بعد الدعوة المحمدية. ولهول ما حدث وقوة الواقعة فقد ثبت ذلك في القرآن الكريم بنص واضح وصريح. وثمة أدلة على نزول الملائكة في أحد وحنين والخندق مع نقاش حول ماهية النزول والمشاركة استناداً على الآية 12 من سورة الأنفال "إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا". 


ولم يدع أحد بعد ذلك أن الملائكة قاتلت معه في أي معركة. حتى في معارك الخلفاء الراشدين لم يرد في التاريخ أن الملائكة نزلت لتقاتل، وربما أن الصحابة الأطهار والسلف لم يكونوا بحاجة لهذا الزعم ليقينهم من إيمانهم وعدم حاجتهم للبرهان عليه، فيما معلم ابني في المدرسة يصر على أن الله اصطفاه دون خلقه فأنزل الملائكة تقاتل معه، اصطفاه دون صلاح الدين الذي حرر القدس ودون سيد قطز ولا محمد الفاتح ولا قبل ذلك في القادسية واليرموك ولا فتح الأندلس. 


مقابل كل ذلك حين كنا أطفالاً بمثل سن ابني في المدرسة لم يكن في منهاجنا أي شيء عن فلسطين بسبب الاحتلال وضابط الركن لشؤون التعليم، مع هذا كان معلمونا في ذلك يقومون بتدريسنا التاريخ الوطني وكفاح شعبنا ضد الاحتلال في زمن الانتداب البريطاني والثورة الفلسطينية المعاصرة، وكان هذا عملاً وطنياً بامتياز يعرض المعلم للاعتقال من قبل قوات الاحتلال، وكان مدرس اللغة العربية يقوم بتوزيع قصائد محمود درويش وسميح القاسم وفدوى طوقان سراً ويقوم بشرحها لها، حتى يخصبوا عقولنا ويحصنوا أرواحنا وطنياً دون مقابل، ولم يكن أحد منهم يفعل ذلك من أجل حزبه أو تنظيمه، لم يكن هناك من يريد غسل أدمغتنا، بل كان الهدف تعزيز وطنيتنا حتى نصبح بعد ذلك مواطنين صالحين ندافع عن قضيتنا، لذلك كبرنا وعملنا في صفوف الحركة الوطنية وسجنا وأصبنا وبقينا ندين بكل هذه الروح الوطنية إلى هؤلاء المدرسين القادة المجهولين الذين جعلوا منا ما كنا عليه. أما المدرس الذي يخون الأمانة ويريد أن يشوه عقول أطفالنا فهذا يجب محاكمته وتطهير المدارس من أمثاله.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد