التعزير هو التأديب على ذنوب لم تُشرع فيها الحدود، والقتل تعزيراً هو تنفيذ حكم الإعدام على تُهم لم يرد فيها نص شرعي يوجب القتل قصاصاً أوحداً، والأصل في التعزير أن لا يصل إلى القتل؛ لأن التعزير هدفه التأديب والردع عن فعل المنكرات، والقتل يُهلك النفس ولا يؤدبها أو يردعها، وهذا ما أكده العالم الفقيه عبد القادر عودة في كتابه (التشريع الجنائي في الإسلام) بقوله: «الأصل في الشريعة أن التعزير للتأديب وأنه يجوز من التعزير، ما أمنت عاقبته غالباً، فينبغي أن لا تكون عقوبة التعزير مُهلكة، ومن ثم لا يجوز في التعزير قتل ولا قطع». وحتى من أجاز القتل تعزيراً من العلماء جعله للضرورة وبضوابط مشددة لحماية المجتمع المسلم، ولكن هيمنة فقه التبرير واجتهاد التلفيق جعل فقهاء السلطان يستخدمونه لحماية الحاكم وحاشيته، ولمصلحة نظام الحكم، فأصبح القتل تعزيراً يعني إطلاق يد الحاكم في التخلّص من معارضيه.
ومطالبة الادعاء العام السعودي بتطبيق حكم القتل تعزيراً على الشيخ العالم الدكتور سلمان العودة يدخل في هذا الباب الذي يُطلق يد الحاكم في التخلص من معارضيه بغطاء شرعي ملفق، بعد توجيه أكثر من ثلاثين تُهمة فضفاضة لا يُمكن ضبطها قانونياً. وقد تكون أهمية وخطورة الشيخ سلمان العودة على النظام كونه يُمثل تيار الصحوة السعودي الذي بدأ يتبلور في المملكة في مرحلة الثمانينيات من القرن العشرين، وأهم رموزه من العلماء: سفر الحوالي، وسلمان العودة، وسعد البريك، وعلي العمري، وعائض القرني، وعوض القرني، وناصر العمر، وآخرون. وقد نشأ تيار الصحوة السعودي بفعل تلاقح تياري السلفية الوهابية والإخوانية المعتدلة، عندما هاجر الكثير من قيادات الإخوان المسلمين الفكرية من مصر إلى السعودية بسبب القمع الناصري في عقد الستينيات من القرن العشرين، واستوعبتهم المملكة للعمل في مجال التعليم فأثروا في العديد من الطلبة السعوديين الذين كونوا فيما بعد تيار الصحوة.
تيار الصحوة السعودي قدّم خطاباً دينياً تنويرياً وسطياً معتدلاً إصلاحياً مختلفاً عن خطاب المؤسسة الدينية الرسمية في المملكة؛ ولكنه لم يخرج عن المدرسة الوهابية رغم تأثره بالمدرسة الاخوانية. وهو بذلك يختلف تماماً عن التيار الليبرالي السعودي، الذي يتحرك خارج المدرسة الوهابية، متأثراً بالفكر الليبرالي الغربي، ومُركّزاً على الحقوق السياسية والاجتماعية للشعب وخاصة المرأة، ومُطالباً بتخفيف القيود الدينية، والحرية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. ولكنه يلتقي مع تيار القاعدة في مرجعيتها الوهابية، مع ملاحظة وجود القاعدة على يمين المؤسسة الدينية الرسمية المتطرف، بينما الصحوة تقع على يسار المؤسسة الدينية الرسمية المعتدل. وبذلك ليس من الغريب أن حرب الخليج الثانية والخلاف مع المؤسسة الدينية الوهابية حول الاستعانة بالكفار في الحرب، كانت بداية بروز التيارين- القاعدة والصحوة- اللذين عارضا الاستعانة بالأمريكان ضد العراق، ولكن كل تيار له منطلقاته الخاصة في المعارضة، وليس من الغريب أيضاً أن تيار القاعدة قد نشأ بفعل تلاقح السلفية الوهابية مع الإخوانية القطبية المتشددة، كما نشأ قبله تيار الصحوة بفعل تلاقح السلفية الوهابية مع الإخوانية المعتدلة.
من أبرز أفكار تيار الصحوة السعودي ما جاء في (مذكرة النصيحة) في بداية التسعينيات من القرن الماضي، الذي وقع عليها أبرز رموز الصحوة، وطالبوا فيها بالإصلاح السياسي والاجتماعي والديني والاقتصادي والإعلامي والتعليمي...ونادوا بالحقوق الدستورية للشعب، وتطبيق مبدأ الشورى، والعدالة الاجتماعية، ومحاربة الفساد المالي والإداري... وقد كتب الشيخ سفر الحوالي- أبرز علماء الصحوة- في كتابه (المسلمون والحضارة الغربية) منتقداً نظام الحكم السعودي «إن الإسلام الذي يقدمه آل سعود هو إسلام أمريكي، لا الإسلام الذي أنزله الله على محمد بن عبد الله، وإن الترف وسوء الإدارة في المملكة إنما هو بسبب تحكم الصبيان». وقد أصدر الشيخ سلمان العودة عشرات الكتب الإسلامية دعا فيها إلى الإصلاح الشامل في المملكة والعالم الإسلامي أهمها: أدب الحوار، ومقالات في المنهج، والإغراق في الجزئيات، وتحية للشعب المقاوم (الفلسطيني)، ولماذا نخاف من النقد؟، وأسئلة الثورة... وغيرها، وكتاب أسئلة الثورة وضح فيه فكره السياسي الإصلاحي المتمحور حول رفض شرعية الحاكم المتغلّب، ورفض احتكار (أهل الحل والعقد) للقرار من دون الناس، وحق الشعب في اختيار الحاكم وعزله، وإلزامية الشورى للحاكم، وتفضيل الإصلاح على الثورة.
وختاماً لم يُكن رموز وعلماء تيار الصحوة السعودي يمثلون مدرسة مستقلة خارج إطار المدرسة السلفية الوهابية، ولم يخرجوا على أصولها، ولكن ذنبهم هو خروجهم عن أصول الخنوع والطاعة، وتمردهم على قواعد الخضوع والخناعة، ونشوزهم عن تقديم طقوس الذلة والمهانة... ففقدوا الأجر والثواب، واستحقوا الغُرم والعقاب، وسُحب منهم تصريح العبور للفوز بالحظوة والقُربى من ولاة الأمور، وأصحاب السلطان والقصور، وأُلقوا في غياهب السجون، حيث الويل والثبور، انتظاراً للقتل تعزيراً والموت تنكيلاً؛ حيث تنتهي فتن آخر الزمان، ويزول من الأرض حُكم الصبيان، وتختفي آثار قرن الشيطان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية