قال لي رجلٌ جاوز سنَّ الخمسين:صَدِّق، أو لا تُصدق، يمكنني الاستغناءُ عن الطعامِ والشراب مدةً طويلة، بدون أن أُحسَّ بالجوع، ويمكنني أن أستغنيَ عن محيطي العائلي فترةً طويلة، وأن أؤجِّل كل المشكلات فتراتٍ مديدة، وأنسى موعد نومي، وفي مراتٍ عديدة أنسى واجبات عملي الذي أعيش منه، ولكنني لا أستطيعُ أن أبتعدَ عن شبكة الإنترنت ساعةً، أو أقلَّ، فأنا أكتب خاطرةً، أو رأيا في شبكة التواصل الإلكترونية، أو بعبارة أوضح، أنا أنصُبُ (شبكة صيد) وأنتظر فرائسي على أحرِّ من الجمر، أي أنتظرُ مُتابعيَّ على صفحتي، صدِّقني إن صوت صفير الإشعارات المنبعثة من هاتفي الشخصي، أغلى مِن صوت أبنائي، هذا الصوت أصبح مركز اهتمامي، يوقظني حتى من عزَّ نومي، غدا مُقدَّما على كل واجباتي، حتى وأنا أشكو إليك حالي الآن، تلقيتُ صفارتَي إنذار من شبكتي العنكبوتية الإلكترونية!! صدقني، من السهل عليَّ أن أنسى هُويتي، ومحفظة نقودي، ومواعيدي حتى مع الأطباء، ولكنني إذا نسيتُ هاتفي المحمول، أو افتقدتُه، ولم أجده في مكانه، أُصابُ بالجنون.


إن الردود التي أحصلُ عليها نوعان، نوعٌ يسرني، وي فتح شهيتي للطعام، ويدفعني للفرح والابتسام، حتى أن زوجتي تعرف ذلك، وتقول: يبدو أنك حظيتَ بعدد كبير من المعجبين والمعجبات، ونوعٌ آخر يستفزني، فأصاب بالقهر والإحباط، ويجعلني متوتراً طوال اليوم في انتظار الداعمين لي على صفحتي، وعندما تستولي علي حالةُ القهر أوبخ أطفالي، وأصرخ في زوجتي، وأحتجُّ على الطعام!!  ابتسمتُ وقلتُ:


إنَّ تسمية وسائط التواصل الاجتماعية (شبكة) هي تسمية صائبة، وإليك بعض تفسيراتها:الشبكة العنكبوتية الإلكترونية تشبه تماماً الشبكة التي ينسجها عنكبوت الطبيعة، فهي شبكة مُصمَّمةٌ بإحكام وبتخطيط فائق الذكاء، في آليات عملها، وفي منطقة صيدها، وفي مراقبتها، فهي كما العنكبوت، فكما تضطلع العنكبوت، الأنثى، وليس الذكر،  ببناء شبكة التواصل، لتجذب الفرائس، كذلك حالُ شبكتنا الإلكترونية، فالجاذب الأكبر فيها هو صور النساء، ولقطات، وتعليقات الأنثى!!
أما التشابه التالي بين الشبكة والعنكبوت، ففي أعدادها، إذا يبلغ عدد أنواع العناكب عشرات الآلاف، وكذلك فإنَّ عدد برامج التواصل، والتغرير، والتجسس، والسيطرة، والقتل عددٌ كبير!!
ومن أطرف أوجه التشابه أن الشبكة تشبه العناكب في طريقة اقتناص الفرائس، بواسطة التغرير، ومِن ثم الصيد، ولا تكتفى الشبكةُ بالصيد بل إنها تفعل مثلما يفعل العنكبوت، تتغذى على العنكب، الذكر أولاً، ومن ثم يتغذى عليها صغارُها، ثم يتغذى الصغارُ على الصغار!!
إذاً، تتحد الشبكة مع العنكبوت في مهمةٍ رئيسة، وهي التوحُّش و(الافتراس) فقد باعتْ الفيس بوك، زبائنها، أو بعبارة أكثر وضوحاً، سوّقتْ بوستات لحومِهم  بمليارات الدولارات لشركة، كامبردج في شهر آذار 2018 !
ومن أبرز صور التشابه بين شبكات التواصل وشبكة العنكبوت، هي ضحايا الشبكة، فما إنْ تصل أصابعهم أطراف الشبكة حتى يغوصوا في شبكة العنكبوت الحريرية الصلبة، فيُقيدون أنفسَهم بأنفسهم، ولا يستطيعون منها فكاكاً، ولا يستطيعُ أحدٌ إنقاذهم منها، فهم قد أصبحوا ضحاياها وأسراها، ولم يعودوا يتحكمون في أنفسهم، بل يُساقون ملفوفين بالشبكة إلى فم العنكبوت الشره طعاماً سائغاً!!
كما أن هناك وجهَ شبهٍ غريباً، وهي أنَّ هذه الشبكة الآسرة، تبدو قويةً مُسيطرة، فائقة الانتشار، ناشرة الإدمان، ولكنها في الواقع ليست سوى نبضاتٍ هوائيةً، لا تظهر للعين، لذلك فإنها هَشَّةٌ، قابلةٌ للزوال في سرعة البرق، يمكن لقراصنة المعلومات أن يضعوا عليها مستحضرات برامج القرصنة، لتصبح هباءً وبخارا زائلا، لا وجود لها !! وكأنها كما ورد وصفُها في الآية القرآنية: "إنَّ أوهنَ البيوتِ لبيتُ العنكبوت"!!.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد