الصراع من أجل الأرض والنضال للحفاظ عليها في وجه المستعمر يكاد يكون قصة التاريخ الأثيرة. 


صحيح أن الحروب هي القصة المفضلة في التاريخ، وأن تاريخ البشرية ليس إلا عبارة عن رواية تفاصيل تلك الحروب، إلا أن أشهر الحروب وربما كلها تدور حول الاستيلاء على أرض الغير بمسميات مختلفة، وعليه فإن الفاتحين وقادة الحروب هم أبطال التاريخ الحقيقيون. 


لقد مثلت الأرض دوما صك وجود الإنسان، وهي علامة ارتباطه بالشيء الذي بات بعد ذلك يسمى وطنا، والاوطان ليست إلا ترجمة لتلك المشاعر التي تربط الإنسان بقطعة الأرض التي يعيش عليها، وفي حالات أخرى تلك التي اضطر لتركها وعاش خارجها رغماً عن إرادته، وقتها يتم تطوير مفاهيم نضالية مرتبكة بوعي ذاتي حول الصراع من أجل التمسك بفكرة الوطن. 


وهذه حالة تشبه الحالة الفلسطينية حيث يمكن للفلسطيني الذي لم ير فلسطين ولم يولد فيها أن يتحدث عن وطنه كأنه قد غادره للتو. 


في مثل هذه الإحالات يتم نسج الكثير من العواطف وربط الكثير من الذكريات واستحضار الكثير من المقولات التي تخدم التعبير المجازي في بعض الأحيان عن فكرة الوطن. 
وبالطبع فإن الوطنيات تختلف، فليست كل أفكار الشعوب عن أوطانها واحدة، ولكن من المؤكد أن الشعوب التي وجدت على قطعة أرض وعاشت عليها وبنت وعمرت طورت هويتها الخاصة من ملح هذه الأرض هي الأكثر نجاعة في تطوير مفهوم الوطنية والتمسك به.


وبالضرورة فإن الوطن لا يعني الدولة، فالدولة ليست إلا ترجمة كيانية لهذا الوجود، وفي بعض الأحيان هي تعبير عن تنظيم الحياة بين أفراد الوطن. 


بكلمة أخرى فإن الوطن أشمل من الدولة. الدولة مؤسسة فيما الوطن وجود وهوية وانتماء. وفيما شهدت البشرية صراعات مريرة بين الوطنيات المختلفة على الحدود وعلى النفوذ منذ فجر التاريخ، تطورت خلال تلك الحروب هويات مختلفة وتشكلت انتماءات متنافرة في مناطق متجاورة، فإن الدولة نتاج تطور وحداثة، فهي في أحسن أحوالها ابنة القرن السابع عشر، ولولا التحولات في الوعي وظهور نظريات أسست لإعطاء البشرية بعض الاستقرار النظري فإننا ربما لم نشهد ميلاد الدولة الحديث كما نعرفها حتى الآن. 


لقد كان للعقد الاجتماعي ولمنظريه المختلفين دور كبير في إرساء قواعد العلاقات داخل إقليم الجغرافيا الواحد الذي هو أساس وجود سلطة الدولة. 


البحث عن تفسير للحاجة لهذه السلطة كان الدينامو المحرك لكل تنظيرات فلاسفة العقد الاجتماعي في محاولة لتفسير نزوع البشر للصراع وحاجتهم لوجود سلطة تجمعهم ويستظلون بظلها. 


في صراع الفرد ضد الفرد في عالم هوبس فإن الكل ميت ما لم يتم التنازل الطوعي عن الإرادة لصالح إرادة أعلى تقوم بتنظيم حياة وعلاقات الأفراد حتى تجنبهم الصراع المميت. 
لذلك فإن الدولة ليست إلا حاجة لتعريف تلك العلاقات ومأسستها حتى تنتظم في قالب يجعل من حياة الأفراد أكثر سهولة وأمناً. 


لكن شعور الأفراد بالانتماء للمكان يسبق بكثير تمأسس كيانهم، وربما وجدت كيانات في التاريخ لم نعرف عنها شيئاً لأنها زالت بسبب الحروب أو بسبب كوارث الطبيعة، لكنها كانت أكثر تقدماً ورقياً وربما كان لها مؤسسات أكثر استقراراً من أشكال التنظيم السياسي الذي نعرفه، وهذا أمر لا يمكن القول والجزم به لكنه وارد. 


في المقابل ليست كل الدول قائمة على مفهوم الوطنية والوطن، وربما أن كل الدولة العنصرية في التاريخ كانت ترتكز على الاستحواذ والوجود بقوة السلاح والهيمنة. 


والتاريخ مليء بالشواهد حول عمليات الإحلال الكولونيالي التي قامت فيها جماعات متفرقة بالسيطرة على جماعات أخرى وحرمتها من التمتع بوطنها واستلبتها إراداتها. 


ليس هذا فحسب، بل قامت بإنشاء دول وكيانات مارست سيادة على أوطان الآخرين وحرمتهم من العيش فيها، وربما هجّرت سكانها من ديارهم وحقولهم لصالح إنشاء مجتمع كولونيالي يعتمد على التمييز العنصري.


لقد كانت تجربة الاستعمار في أفريقيا مثلاً حياً لمثل هذه الحوادث في التاريخ المعاصر وكانت الدول الاستعمارية من فرنسا وبريطانيا وبلجيكا تقيم مستعمرات وكيانات تحول بعضها إلى دول كما حدث في جنوب أفريقيا ونجحت في غرس مستعمرين باتوا حتى بعد مرحلة التحرر الوطني وتفكيك الاستعمار سكاناً في تلك البلاد بفعل طبيعة عملية التحرر والاتفاقات التي نتجت، وفي بعضها مازالوا يمارسون السياسة بشكل كامل في البلاد التي استعمروها بعد زوال حكمهم، مثلما هي الحال في جنوب أفريقيا.


إسرائيل نموذج صارخ في التاريخ. والنوازع الاستعمارية تظل هي ملح العمليات الروحية لهذا النظام، فسرعان ما يعلن مع الوقت عن نزعاته الحقيقية.


وسرعان ما عبر قانون القومية عن فاشية الكيان الإحلالي، وشيئاً فشيئاً فإن وجه الابرتهايد يصبح أكثر وضوحاً، وتسقط في ظل هذه العملية كل الأقنعة. 


الدولة لا تخلق وطنا، لكن الوطن يغني عن كل شيء، ونحن ملح هذه الأرض.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد