لماذا التعليم التحرري؟،بقلم: ميسرة أبو سلطان
إن أي منهج تعليمي جديد يأتي نتيجة لإصلاح تربوي أو تحول سياسي حدث في تاريخ الشعوب, تم من خلال اعتماد أهداف واقعية طموحة ممكنة وقابلة للتحقيق ونتيجة نجاحات تراكمية تتحقق بالتخطيط والتتابع وليس بالضربة القاضية التي تطيح بالتعليم التقليدي ،إنما من خلال اشتقاق الآليات والأدوات والأنشطة المناسبة التي تصب في خدمة تحقيق هذه الأهداف.
والشواهد التاريخية علي ذلك كثيرة، لعل من أشهرها انتصار الثقافة العربية الإسلامية التي كانت الأساس الذي بنيت ونھضت عليھا ثقافة أوروبا الحديثة بشھادة علماء الغرب والمؤرخين المنصفين منهم ، وقد ساهمت فلسطين وما زالت في نھضة الكثير من الشعوب العربية في الخليج، وفي غيره، كما أسھم الآلاف من أبنائه وبناته المتميزين في الحركة الثقافية والعلمية والاقتصادية وغيرھا في البلدان التي ھاجروا إليھا، واستقروا فيھا. والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى في ھذا المقال.
ومع كل ذلك إلا أن للمجتمع الفلسطيني خصوصية تفرده عن باقي الشعوب, حيث ان التعليم وخاصة في قطاع غزه يواجه وضع استثنائي بفعل الانقسام السياسي الجغرافي والسياسات الإسرائيلية الرامية إلي تقويض المجتمع الفلسطيني والتي له آثار قاسية على حياة الطالب الفلسطيني.
فقد أشارت نتائج الدارسات التي أجريت لقياس أثر الحصار علي قطاع التعليم في محافظات قطاع غزه إلي تدهور وتدني واضح لمستوي التحصيل العلمي لدي الطلبة بسبب الحصار والحروب المتتالية إذ أظهرت الإحصاءات أن 49.8% من الفئة العمرية 5-17 من الذكور عانوا من تدهور الأداء المدرسي في حين بلغت نسبة الإناث 41.9 %لنفس الفئة. كما أفادت دراسة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين في غزة أن ثلث الأطفال الذين شملتهم عينة الدراسة في مدارس الوكالة يواجهون صعوبة في القراءة والكتابة بسبب العنف والحصار.
هذه الظروف تفرض علينا أن نبحث عن نظام تعليمي من منطق جديد يستطيع أن يواجه التحديات والإشكاليات التي تؤثر علي حياة الطالب والمعلم والبيئة المدرسية بوجه عام وتدفعنا للبحث عن نظام تعليمي يقوي مناعة الفرد والمجتمع وتساهم في بناء شخصيه تحرريه تستطيع أن تؤائم الانتقالات العمرية من مرحلة الطفولة إلي الشباب،ومن التعليم إلي العمل، ومن النشأة غير المتبصرة إلي المواطنة النشطة والمسؤولة.
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه ھنا: ماذا يلزمنا لنخوض تجربة عملية تعليمية ناجحة، في عالم قد تطورت فيه سياسات التعليم بتطور الأمم و الحضارات المختلفة وان تستفيد فلسطين من تجارب دول رائده في هذا المجال مثل (اليابان، سنغافورة، فنلندا، الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها) ،حيث تستدعي حالة التعلم في فلسطين إلي رؤية شموليه مستمرة تقوم على الحقوق وتعمل على احترام وتقدير إمكانيات كل الأطفال والشباب. وهنا يظهر أمامنا العديد من التساؤلات المرتبطة مثل: ما هي المناهج التي نريدها في فلسطين؟ وكيف يكون دور المعلم؟ وهل ما نتحدث عنه هو التعليم المدرسي فقط؟ أم أن التعلم هو فعل حياتي أبدي يحمل في جوهره المعرفة في جميع المراحل العمرية؟
فإذا ما أرادت فلسطين وضع سياسات متماسكة لدعم وتشجيع أشكال التعليم بالمشاركة والعادلة اجتماعيا , فإننا نحتاج إلى تنفيذ برنامج لتحقيق أهداف التعليم التحرري المبني علي القيم في حياة الإنسان كفرد وجماعة ويوصل إلي التعلّم الذاتي ، ويخلق توجّهات جديدة في المهارات والمعلومات في سياق المجتمع., واستخدامها بحرية من خلال الممارسة العملية للمنهج العصري ليعيد تشكيل البيئة الاجتماعية والثقافية في ظل توازن العلاقة داخل الصف بين المعلم والطالب الذي يصبح فيه مفكر وناقد وليس مجرد متلقي سلبي.
فالتعليم التحرري عملية تعلم وتعليم مستمرة مركزها الفرد ، يهيئ للتعامل مع التعقيد والتنوع والتغيير ويشجع على تطوير مجموعة كبيرة من الاهتمامات والمعرفة مثل الديمقراطية والمشاركة واحترام آراء الآخرين ويعزز قيم التسامح ويساعد على تنمية الحس بالمسؤولية الاجتماعية. كما أنه يعزز وينمي ويطور المهارات الفكرية والعملية القوية والقابلة للتحويل مثل مهارات الاتصال والابتكار والتحليل وحل المشكلات والقدرة الواضحة على تطبيق المعرفة. من هنا نحن نصنع فرد قادر على التفاعل في مجتمع من الأفراد القادرين على صناعة حضارة ومن فتح علي الثقافات الاخري في بيئات العالم الحقيقي.
ولو نظرنا إلى مناهج التعليم لدينا, لوجدنا أنها تسعى لري عقل الطالب بكم كبير من المعلومات التي تقلص من نصيب تطوير مهارات وبناء شخصية الطفل وعقله, ليأتي التقييم في نهاية العام وفق رقم يرصد درجاته التي استطاع جمعها في الاختبارات الفصلية والسنوية. ولعل هذا ما استدعى القيام بمساعي من وزارة التربية والتعليم الفلسطينية تجاه تطوير المناهج بما يلائم السياق المجتمعي والتغيرات الحالية وتعديل سياسات التقييم للمتعلمين. فنجد أن المناهج الجديدة للمرحلة الابتدائية المحدثة تراعي توسيع خيال الطلاب ومداركهم, وتعزز مشاركتهم في الفصل وخارجه, وتمنح المعلم فرصة لأن يطور من أدواته, إضافة لاستحداث ما سُميَ ب "ملف الإنجاز" الذي يعزز مشاركة الطالب في الأنشطة التعلمية اللامنهجية؛ ألا أن كل ذلك مرهون بعدة معيقات كاكتظاظ الفصول, وضعف الإمكانيات المدرسية, ومحدودية المدرسة المكانية والترفيهية وغيرها من العوامل الاجتماعية والاقتصادية والنفسية الواقعة على كل من المعلم والطالب والأهالي.
هذا المنهاج وإن زالت هذه المعيقات وغيرها من المفروضة, وارتبط بمعلمين قادرين على تطوير وتحديث طرائق تدريسهم والتفاعل مع التعليم والطالب بشغف, فإنه سينعكس حتماً على الطالب ليكون شغوفا محبا للمدرسة وهنا نقترب من التعليم والتعلم المنشود.
إننا في نظامنا التعليمي تحتاج نظام متطور يعزز تحرر المتعلم من بنك التقلين ومن قيود فرضتها العوامل المختلفة على المنظومة التعليمية والإدارة المدرسية والمعلم والطالب والأهالي أيضا, يقوم هذا النظام على أساس علمي عملي يشجع ويحقق تحرر ووعي أكبر في التفكير وطرائق التدريس والتربية لتبني جيلاً ذو وعيٍ وثقافة عظيمة يستطيع التغير بإبداع في مجتمعنا. ونأمل أن نشھد في السنوات القادمة نھضة تربوية تعليمية شاملة تواكب التطور الكمي في أعداد المؤسسات والطلبة والعاملين فيھا، وھو تطور بشكل إيجابي جداً عندما يرافقه تطور في الكيفية والنوعية.
ترجع مسؤولية محتوى هذا المنشور لمؤسسة بيت الصحافة, ولا يعكس بالضرورة موقف مؤسسة روزا لوكسمبورغ
مشروع خطوة نحو تعليم أفضل- تنفيذ بيت الصحافة – فلسطين وتمويل مؤسسة روزا لوكسمبورغ الألمانية