المشهد على حدود قطاع غزة «عَصيّ» على القراءة السياسية في الكثير من جوانبه، وقابل للتغيّر من يوم إلى آخر، وأحياناً من ساعة إلى أخرى.


فبينما يؤكد الاحتلال على أن المطلوب هو الهدوء مقابل الهدوء، ويتم الانتقال من الهدوء إلى الخبز، ومن الخبز إلى تخفيف الحصار، ومن تخفيف الحصار إلى فكفكته تدريجياً، ثم البدء بإعادة الإعمار بدءاً من مشاريع إصلاح وتمكين البنية التحتية... تؤكد حماس على نفس هذا السياق وهذا التسلسل ولكن بكلمات أخرى وألفاظ شبيهة، مع فارق واحد ووحيد، فك الحصار هو مفتاح كل شيء. إسرائيل لا تريد فك الحصار وإنما التدرج في الوصول اليه، مقابل استجابة حماس بعدم استخدام السلاح وصولاً إلى تحييده، وإنهاء دوره في المعادلة. بالنسبة لإسرائيل ليس مهماً إن كان هذا السياق هو تهدئة أم هدنة، وليس مهماً إن كان سيؤدي هذا السياق إلى بقاء حركة حماس في سدة حكم القطاع أم انتهى هذا البقاء.
ما يهم إسرائيل هو ثلاث قضايا استراتيجية:


1ـ الهدوء الذي يؤمن لسكان غلاف غزة العيش الطبيعي والتخلص بصورة نهائية من حالة القلق والخوف وانعدام الأمان الذي يشعر به سكان هذا الغلاف.
2ـ إنهاء دور السلاح بغض النظر عن الصيغة والشكل.
3ـ الإبقاء على قطاع غزة جسماً منفصلاً عن الضفة وإعطاؤه الفرصة الاقتصادية للعيش الخاص.
أما حركة حماس فلديها ثلاث قضايا استراتيجية مقابلة:
1ـ إنهاء الحصار وفكه حتى ولو تدريجياً.
2ـ الحفاظ على حكمها في القطاع حتى ولو أدى ذلك للانفصال.
3ـ عدم تسليم السلاح والقبول بتحييده مقابل تهدئة تسمى هدنة أو هدنة تسمى تهدئة.


أما الميناء والمطار وتبادل الأسرى وغيرها وغيرها فهي مجرد أشكال وموضوعات وقضايا تفاوضية بالمعنى القصير والتكتيكي والفني، وليس فيها ما يعطل أو يمنع أو يدخل في اطار الرؤى الاستراتيجية.


هاتان الاستراتيجيتان المتقابلتان من حيث الشكل هما اقل تعارضاً فيما بينهما من الناحية الموضوعية والجوهرية. إذا ما أجرينا مقابلة هذه النقاط بعضها ببعض لكي نصل إلى المقاربة الواقعية نجد أن الفرق الجوهري هو فرق واحد، هذا إذا كان بالإمكان الحديث عنه كفارق جوهري فعلاً.


هذا الفرق هو بقاء حركة حماس متحكّمة بالقطاع من وجهة نظرها، في حين أن إسرائيل تريد أن يكون هذا البقاء مشروطاً بالاستجابة التامة لشروطها.


ولأن إسرائيل تدرك مربط الفرس هذا وأهميته بالنسبة لحركة حماس فهي تناور حوله بالذات.


فبينما يتحدث البعض في إسرائيل عن خطر الاتفاق مع حركة حماس بدون الشرعية الفلسطينية، يتحدث آخرون أن الاتفاق مع حماس بدون الشرعية الفلسطينية أفضل لإسرائيل، إن هي أرادت توجيه ضربة قاصمة للمشروع الوطني الفلسطيني، وإن أدى ذلك إلى تكريس الانفصال، باعتبار أن هذا الأمر سيفضي موضوعياً لتحول الهدنة أو التهدئة إلى سياق مباشر أو غير مباشر لـ» صفقة القرن »!


هنا تناور إسرائيل بالتهديد المباشر بحرب كبيرة وباغتيالات مباشرة كخطط جاهزة للتنفيذ في أية لحظة.


وهنا بالذات تناور حركة حماس، ووفق هذا المنظور بالذات وحوله تتمحور الحركة السياسية لحركة حماس.


إذا تمت الأمور وفق التصور الإسرائيلي فإن قدرة إسرائيل على التسويق الداخلي للهدنة أو التهدئة سهلة وبسيطة، لأن ضغوط سكان غلاف غزة كبيرة، وما يهمهم هو الذهاب إلى حل سياسي ينهي «معاناتهم» أو الذهاب إلى حل عسكري إذا تعذر الحل السياسي.


الحل العسكري ليس محبذاً عند إسرائيل لأسباب كثيرة، إذ لا «يعقل» أن تذهب إسرائيل إلى حرب وهي على أبواب انتخابات مبكرة يبدو فيها نتنياهو في أوج شعبيته، ويبدو أن أي بديل عنه هو بديل هزيل بالمقارنة مع المكانة التي يحظى بها.


كما أن الذهاب إلى حرب كبيرة في ظل ما يقال عن عدم جاهزية الجبهة الداخلية أمر مستبعد للغاية، كما أن حرباً من هذا النوع قد تُحدث خللاً كبيراً في جاهزية إسرائيل لأي حرب قد تقع على الجبهة الشمالية.


أما حركة حماس فليس لديها ـ على ما يبدو ـ مشكلة في إجبار الفصائل في القطاع على القبول بالهدنة أو التهدئة، وهي مستعدة لهذا الأمر بكل تأكيد، وليس لديها مشكلة كبيرة في تسويق الأمر شعبياً بالنظر إلى حالة الاختناق الاقتصادية والمعيشية في القطاع.


بعد أن أعلنت واشنطن أنها ستذهب قدماً في دعم التهدئة أو الهدنة بوجود السلطة أو بدونها الأمر بات واضحاً، لأن التفسير السياسي لهذا الموقف يعني لمن يعرف بالسياسة والدبلوماسية والمناورة السياسية تحديداً هو أن واشنطن باتت تحبذ الاتفاق بدون الشرعية الوطنية، وهو أمر سيشجع حماس على الذهاب أبعد مما كان متصوراً قبل هذا التصريح. العقبة التي تخشاها حماس هي ردة فعل الشرعية الوطنية في حال أن الأمور سارت بهذا الاتجاه وهي ـ أي حماس ـ لا يمكن لها القفز عن الموقف المصري، بل ويكاد يكون الموقف المصري هو همها الوحيد والأكبر على كل حال.


ولهذا فإن مسؤولية مصر تبدو مضاعفة عما كانت عليه قبل عدة أيام، ويبدو أن مصر ستتمكن من نسف هذا المخطط إن هي استطاعت إنجاز المصالحة أو إنهاء الانقسام قبل فوات الأوان.


في حين انه وبالرغم من كل البلبلة التي سبقت عقد دورة المجلس المركزي فإن هذا المجلس لا بد وأن يتوقف بمسؤولية خاصة أمام هذا المنعطف الخطير، وأن يسعى جاهداً لوقف هذا الانزلاق نحو هاوية فلسطينية جديدة عبر هدنة ذريعتُها إنسانية، ودوافعُها وأهدافُها الشروع في تدمير المشروع الوطني، وآلياتُها إخراج القطاع رويداً وتدريجياً من الجسد الوطني، وفصله وعزله عن الجغرافيا والديمغرافيا الفلسطينية.


صحيح أن المشهد من على سطح الأحداث يبدو عصياً بل وسريالياً، لكن الخطوط بدأت بالظهور المتدرج واتجاهات السير تبدو واضحة بما يكفي.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد