ما من شك بأن توقيت الاعتراف الأمريكي ب القدس عاصمة لدولة الاحتلال ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ، له أسبابه ودلالاته  ومغزاه وأهدافه ، وبالتالي هذا الاعتراف لم يكن اعتباطياً ، مع أنه لم يكن مفاجأ ليس بسبب التوقعات أو التسريبات الإعلامية التي سبقت الإعلان ، بل بسبب الانحياز الأمريكي التاريخي للمواقف الإسرائيلية ، وأيضاً بسبب العلاقة الإستراتيجية التي تربط الطرفين ، هذا إلى جانب أهمية وضرورة دولة الاحتلال لدولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية من حيث المصالح والجيوستراتيجية، كما يتزامن هذا الاعتراف مع تصريحات وزراء حكومة الاحتلال ، وأيضاً مع بعض أعضاء البرلمان الإسرائيلي، وبلدية الاحتلال في القدس ، حول النية (للتنازل) عن بعض الأحياء والقرى العربية التابعة للقدس . أما من حيث التوقيت فالصراعات الدائرة في الإقليم  والحروب الطاحنة ، وانشغال بعض الدول العربية بأوضاعها الداخلية المتردية ، ومكافحتها لقوى التطرف والإرهاب. وغياب العرب عن المشهد ، إن لم يكونوا جزءاً من المشروع ، كما أن ذلك مرتبط في البرنامج الانتخابي لترامب وتعهده بالاعتراف بالقدس كعاصمة لدولة الاحتلال وبنقل السفارة. ببساطة القرار الأمريكي يؤكد من جديد أن الولايات المتحدة لا تقف على مسافة واحدة من طرفي الصراع ، وأنها ليست وسيطاً نزيهاً أو محايداً في عملية التسوية الجارية ، بل أنها منحازة .  

صحيح أن هذا الاعتراف بلغة السياسة والقانون لن يخلق حقاً ولن ينشئ التزاماً، فهذه المقامرة والمغامرة لن تغير من حقائق التاريخ والجغرافيا والتي تؤكد أن القدس أرض محتلة وأن قرار الإدارة الأمريكية مناف لقرارات الشرعية الدولية وفي مقدمتها قرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة ومنظمة اليونسكو فقرار مجلس الأمن رقم 267 الصادر في عام 1969 يؤكد "أن جميع الإجراءات التشريعية والإدارية والأعمال التي اتخذتها إسرائيل من أجل تغيير وضع القدس، بما في ذلك مصادرة الأراضي والممتلكات، هي أعمال باطلة ولا يمكن أن تغير وضع القدس". كما وأكد قرار مجلس الأمن رقم 478 لعام 1980 على عدم الاعتراف ب"القانون الأساسي" الإسرائيلي بشأن القدس ، كما أدان مجلس الأمن في قراره رقم 2334 لعام 2016 والذي دعا جميع الدول إلى وجوب التمييز فيما بين أراضي دولة إسرائيل، السلطة القائمة بالاحتلال، والأراضي المحتلة عام 1967 في تعاملها. هذا إلى جانب قرار عصبة الأمم الخاص بحائط البراق، وأيضاً قرارات اليونسكو في العام 2017 بذات الخصوص . هذا إلى جانب عشرات القرارات الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة ، والتي تؤكد على أن القدس جزء لا يتجزأ من الأراضي المحتلة العام 1967 .

ولكن في ظل التحديات الماثلة ، فليس هناك من خيارات أو من انتظار أو من مراهنة ، الموقف لا يحتاج إلى براهين وفرضيات ، وبالتالي فإن الموقف الرسمي الفلسطيني يجب ألا يتسم بالتكتيك ، أعتقد أن أربعة وعشرين عاماً من التكتيك والانتظار كافية لكي تتخذ القيادة قراراً استراتيجياً واحداً من شأنه أن يقنع مواطناً فلسطينياً واحداً ، اليوم أكثر من أي وقت مضى نحن بحاجة إلى تعزيز الوحدة الوطنية على أساس الشراكة السياسية الكاملة ،  وأقل ما يمكن أن نقوم به أن يصار إلى مؤتمر إنقاذ وطني تشارك به كل القوى السياسية والمجتمعية الفلسطينية والشخصيات الوطنية والخبراء والمختصين. للخروج بإستراتيجية وطنية لمواجهة الموقف الأمريكي والعدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني . والمسألة الثانية أن تعلن القيادة الفلسطينية الانسحاب من مفاوضات السلام مع إسرائيل ، إن لم نقل سحب الاعتراف منها ، والمسألة الأخرى تسليم مفاتيح السلطة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي ، وهذا الطرح ليس بالجديد فقد سبق الدكتور علي الجرباوي وأن طرح هذا الموضوع على بساط البحث للخروج من الأزمة في مقال شهير له أبان الانتفاضة الثانية ، وبالتالي نحن لسنا وكلاء لأحد، فعلى الفلسطينيين إلا  يستمروا في إعفاء المجتمع الدولي من مسؤولياته اتجاه الشعب الفلسطيني . فهناك إدارة ظهر من قبل الولايات المتحدة والمجتمع الدولي لحقوق الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير مصيره وإقامة دولته الفلسطينية المستقلة على ترابه الوطني . الحديث اليوم عن وقف التنسيق الأمني ليس بالمجدي بل أنه أشبه ما يكون بشماعة ، يجب أن تكون هناك قرارات حاسمة وأن تتحمل القيادة الفلسطينية مسؤولياتها التاريخية ، وأن ترتفع لمستوى التحديات والمخاطر ، وإلا تبقى تقود الشعب الفلسطيني إلى المجهول، فالموقف بحاجة إلى قرارات شجاعة وتاريخية ، مع الآخذ بعين الاعتبار ألا تتسم تلك القرارات بردة الفعل وبمنطق الفزعة ، بل يجب أن تكون مدروسة ومتفق عليها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً وأيضاً مع الدول الصديقة .

وتأسيساً على ما سبق يخطئ من يعتقد أن بتسليم القيادة لمفاتيح السلطة أن البديل جاهزٌ ، بل أن البعض يروج لذلك من أجل أن يبقى في موقع صنع القرار مستأثراً ببعض الامتيازات ومحافظاً على مصالحه الشخصية المرتبطة باتفاقية أوسلو، فتاريخياً وعلى مدار مئة عام من الصراع ويزيد ، لم تنجح قوى الاستعمار والإلحاق والضم والاحتلال من أن "تخلق" البديل ، بل لم يكن هناك مفرٌ من أن تتفاوض تلك القوى إلا مع الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني ، لم يحدث أن جاء أي ممثل للشعب الفلسطيني على ظهر دبابة ، أو بدعم من مستعمر أو محتل إلا وكان مصيره الاختفاء من المشهد، فلا حزب الزراع نجح ، ولا عصابات ( فرق السلام ) التي شكلها عملاء الانجليز أفشلت الثورة في ثلاثينيات القرن الماضي ، أو أنها حلت محل اللجنة العربية العليا ، ولا القيادة البديلة التي نُظر لها في معاهدة كامب ديفيد كتب لها النجاح ، ولا روابط القرى التي شكلت من عملاء الاحتلال والتي تصدى لها الشعب وقواه الوطنية مررت، ولا التقاسم الوظيفي والالتفاف على منظمة التحرير الفلسطينية كان له قبول . ومع أن بعض العرب حاولوا وما زالوا يحاولون احتضان ودعم ومغازلة بعض القوى الفلسطينية وتقديمها للعالم ، على غرار ما قدمت منظمة التحرير الفلسطينية العام 1974 ، لتكون بديلاً عن منظمة التحرير الفلسطينية ، ومع ذلك فلن يكتب لها النجاح ما دامت مرجعياتها غير فلسطينية .

وفي ظني أن التمسك الرسمي الفلسطيني بخيار المفاوضات كطريق أوحد لعملية التسوية ، كان سبباً أساسياً لإضعاف الموقف الفلسطيني والشرذمة الداخلية والانقسام ، وتدني سقف المطالب الفلسطينية ، والجري وراء سراب الوعود الأمريكية ، وتغيب السلطة التشريعية ، والبحث عن الخلاص الفردي، واستفحال الأزمة القيمية ، واعتبار السلطة مصدر " قوة " للبعض، و فتح جبهات قتال فلسطينية تنظيمية وفصائلية جانبية ، واتخاذ القرارات صباحاً والتراجع عنها مساءً، ووضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، وعدم المساءلة والمحاسبة ، وسوء الإدارة ، واتخاذ القرارات غير المدروسة ، والارتجال في المواقف، واستخدام منطق "الفزعة" أو بعبارة فلاحية أدق " التهقيش" ،  يضاف لذلك عدم وجود شراكة سياسية حقيقية بين القوى الفلسطينية، وعدم الاتفاق على حد أدنى لبرنامج إجماع وطني ، وتغييب الناس، وإقصاء مؤسسات المجتمع المدني، والمفكرين، والخبراء، والأكاديميين، والشخصيات الوطنية من المشهد ، وعدم سيادة القانون، وعدم إجراء الانتخابات ، والتداول السلمي للسلطة، وعدم تكافؤ الفرص ، وعدم الفصل بين السلطات ، واستقلال القضاء ، والعدالة الاجتماعية، يضاف لذلك عدم امتلاكنا لإستراتيجية تفاوضية فلسطينية ، إلا إذا كانت برأس كبير المفاوضين الفلسطينيين ونحن لا نعلمها . كلها وغيرها أسباب أساسية لتردي الوضع الداخلي ، وسبب مهم لاستقواء الاحتلال والإدارة الأمريكية علينا. 

بشكل مباشر المطلوب عربياً وإسلامياً ، هو أن يكون هناك موقفٌ عربيٌ إسلاميٌ حاسمٌ ، وأن يكون الرد بنفس الطريقة ، وبلغة المصالح بين العرب والولايات المتحدة الأمريكية ، إذا استطاع العرب لذلك سبيلا ، أيضاً دعوة جامعة الدول الجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي للانعقاد، واتخاذ قرارات تاريخية تساوي الموقف الجلل. وتحرك دبلوماسي فلسطيني عربي إسلامي في مختلف الوجهات ، أما دولياً فالمطلوب هو دعوة مجلس الأمن لفرض عقوبات فورية على إسرائيل،  وفي حالة عرقلة مجلس الأمن هذا التوجه بسبب الفيتو المتوقع من الولايات المتحدة التوجه للجمعية العامة . أيضاً دعوة المنظمات الإقليمية بما في ذلك الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي لاستخدام جميع الآليات المتاحة لضمان فرض العقوبات على إسرائيل. بما يتطلب تفعيل قرار الجمعية العامة رقم 337 (أ)(د-5) حال فشل مجلس الأمن في التصرف، لتأكيد مجدداً عدم شرعية ضم إسرائيل للقدس المحتلة وإعادة إقرار وضعها وفق القانون الدولي. دعوة للأطراف السامية المتعاقدة في اتفاقيات جنيف إلى تحمل مسؤولياتها تجاه الشعب الفلسطيني .

 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد