تبدو القطاعات الخدمية أزمة غزة القادمة. ساهم في تفاقم ذلك شيئان: الاحتلال والحصار المفروض على غزة من جهة، وحكم " حماس " والانقسام من جهة أخرى. التقارير الدولية الأخيرة كلها تركز على الأوضاع الإنسانية في القطاع المحاصر والمنعزل بفعل الانقسام منذ قرابة أكثر من أحد عشر عاماً، وربما بات الحديث عن أزمات القطاع الإنسانية أكثر من الإشارات الواهنة إلى الحقوق السياسية لأهل القطاع بوصفهم جزءاً من الشعب العربي الفلسطيني، الذي بدأت أزمته الحقيقية قبل قرن وعام، حين تعهد المجتمع الدولي عبر دولته الاستعمارية الأمّ بمنح وطنه إلى مستوطنين غرباء، وتجسد ذلك بتمكين هؤلاء المستوطنين من سرقة البلاد وطرد أهلها الأصليين، وإقامة دولة اعترف بها العالم، ولم يزل ينكر على أهل البلاد الحقيقيين أن يعترف لهم بدولة على أقل من ربع أرض آبائهم وأجدادهم. هكذا يمكن تلخيص الحكاية. إنها حكاية تصلح أن تروى كنموذج للظلم التاريخي الذي يرتكبه العالم دون أن يرف له رمش، وربما يصلح توظيفها في التراجيديات الكبرى لسوفكليس ويوربيدس وكتبة الملاحم. 


عموماً، فإن تلك الأوضاع الإنسانية تنجح عبر التركيز الإعلامي وتكثيف النقاش حولها في الهيمنة على المحتوى السياسي للصراع، وبالتالي إعفاء دولة الاحتلال والكيان المقام على التراب الوطني من مسؤولياته، وبالتالي إراحة ضمير المجتمع الدولي الذي سيعتقد إن هو ساهم في تخفيف وطأة الحياة فإنه يقوم ببعض من واجباته التعويضية عن صمته وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني الذي وَهب هذا المجتمعُ الدولي أرضه لمستوطنين من جنسيات مختلفة. ويمكن للمتابعة السريعة أن تكشف عن الكثير من ذلك. الأسبوع الماضي وعلى هذه الصفحة أشرنا إلى خطة السيد ملادينوف التي تبدو مثل عصا سحرية ستحلّ أزمات غزة. ولأن السياسة آخر ما تتعاطى معه النوايا، فإن المخرج كما المدخل قبله لهذه الخطة هو التوجه الإنساني لحلّ الصراع في قطاع غزة. الأمر ذاته ينسحب على تعليقات مسؤول أممي، أمس، حول الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة. الأرقام صادمة ومهولة وكلها تكشف عن حقيقة هول الكارثة المحيقة في قطاع غزة. حتى متابعة الأخبار تزيد المرء ارتباكاً. فثمة حديث عن عدم مقدرة بعض المؤسسات على تقديم خدماتها الطبية.


خلال مؤتمر، عقد قبل أيام، بتنظيم من بيت الصحافة، حول "التعليم التحرري" في قطاع غزة، تم استعراض بعض البيانات حول واقع التعليم في قطاع غزة، ومعلومات صادمة في الحقيقة تكشف عن حجم الأزمة. وهي تقول: صحيح أن ثمة جوانب سياسية عميقة وراء كل ما يجري في قطاع غزة، ولكن هناك أيضاً حاجة لإسعاف الوضع. لأن قطاعي التعليم والصحة لا ينتظران، فهما ليسا للترف ولا من كماليات الحياة بل من أساساتها، وعليه فإن خطة وطنية لإنقاذ هذين القطاعين تبدو ملحة وعاجلة، ويجب وضع ألف خط تحت كلمة وطنية، بمعني أن تكون خطة ضمن رؤية وطنية وليست محاولة تضليل من المجتمع الدولي. 


في قطاع غزة، وفق ما قدّم في المؤتمر، هناك 409 مدارس (في قطاع الحكومة) تعمل في 290 مبنى، يعني هذا أن هناك الكثير من المباني تخدم أكثر من مدرسة على نظام الفترتين الصباحية والمسائية. يبلغ عدد تلك المدارس التي تعمل بنظام الفترتين 180 مدرسة. هذه المدارس تضم 267 ألف طالب وطالبة، بمن فيهم 14 ألف طالب جديد بداية العام الدراسي القادم، كما هو متوقع. تبلغ نسبة الاكتظاظ الفصلي 37 طالباً في الفصل، وفي بعض الفصول يصل تعداد الطلاب فيها إلى 45 طالباً. القطاع الحكومي بحاجة لعشرين مدرسة مع بداية العام الجديد، تم توفير تسع مدارس منها فقط، فيما يظل هناك عجز في 11 مدرسة مع افتتاح العام الجديد. الشيء الآخر المقلق أن نسبة التسرب المدرسي زادت، في العام الدراسي 2017-2018، 2.4 بالمائة، مقارنة بالعام الدراسي الذي سبقه، خاصة في المستوى الثانوي. 


من المؤكد أن البيانات في القطاع الصحي ستكون صادمة أكثر من ذلك، خاصة مع استمرار الاعتداءات الإسرائيلية على شعبنا وإصابة أكثر من 15 ألف مواطن خلال مسيرات العودة في الأشهر الثلاثة الماضية، ووصول نسبة حالات البتر في الأطراف من بين الإصابات إلى مستوى غير مسبوق. يضاف إلى ذلك أزمة الوقود والكهرباء وتأثيرها على استمرارية عمل القطاع الصحي، وشح الإمكانيات، وأيضاً يجب التذكير بذلك واستغلال المساعدات حزبياً وعدم ذهابها إلى مستشفيات الدولة بل إلى مؤسسات صديقة، وغير ذلك مما يجب تسجيله في السجل الأسود لمعالجة الأمور.


مرة أخرى، يجب أن نتوقف بقوة أمام كل ذلك لأن هذا يعني أن المستقبل في خطر، وحين يكون المستقبل في خطر فإن هذا يتطلب تدخلاً من نوع مختلف. إنه التدخل الذي يرتكز على التفكير في المستقبل وليس النظر تحت القدمين. عموماً، إن الانقسام وحكم 11 عاماً بعقل التفرد والحزب الواحد وقمع الآخرين ومصادرة الحريات، كل هذا لم يكن نتيجته إلا الأوضاع المأساوية التي وصلنا لها. لم يقدنا هذا إلى أي مكان غير الذي نعيش فيه. ولم يغير أي شيء للأمام، بل قاد إلى النتائج السوداء التي نعاني منها الآن، حيث باتت القطاعات الخدماتية مهددة بالتوقف. وكل ذلك لا يستقيم إلا باستعادة الوحدة الوطنية وتمكين الحكومة من أداء مهامها بشكل ناجع، على أن يكون أول هذه المهام هو وضع خطة إنقاذ وطني تركز على قطاعات الخدمات، وربما تستفيد من كل المطروح دولياً وتوظفه ضمنها، لا أن تقع ضحية الخطط الدولية، وتوفير الإمكانيات المالية اللازمة لذلك. هل يبدو هذا عسيراً؟ من المؤكد أن متابعة ما يجري يشعرك بأن الانقسام بقرة مقدسة لا يريد البعض أن يتنازل عنها، لم يتشابه عليهم البقر ولا هم ينوون أن يرموا بها في عتمة الماضي، بل يقودون العربة إلى المزيد من الانزلاق.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد