قبل فترة وجيزة التقيت بصديق أحبه وأثق بآرائه السياسية وسألت: كيف شايفها؟
أجابني خليل الجمل: مْغَرْزِة.
فكرتُ ملياً بهذا التعبير، فلم أجد أبلغ منه في وصف حالتنا آنذاك، وليس هناك من تعبير أبلغ في وصف حالتنا اليوم.
نعم الحالة مْغَرْزِة.
عندما تغرز المركبة في الرمل أو الطين أو الوحل فإن مهارة السائق لا تكفي وحدها لإقلاع المركبة، وإذا كان السائق متواضع المهارة فالمهمة تصبح أصعب بما لا يقاس وهو يحتاج في كل الأحوال إلى المساعدة لوضع الأحجار تحت وفي مقدمة العجلات، وهو يحتاج أيضاً إلى قوة وعزم المساعدين لكي لا تدور العجلات في المكان، وقوة الدفع ضرورية جداً لكي تجتاز العجلات الحفرة التي أحدثتها جراء الدوران المتواصل في المكان.
لهذا كله قلت إنني لم أجد تعبيراً أبلغ من هذا التعبير في وصف الواقع الفلسطيني.
لن تتمكن المركبة الفلسطينية من الخروج بسلام من وحل وطين ورمل الحالة الفلسطينية قبل إنهاء الانقسام، ولن يتم إنهاء الانقسام قبل تماسك المنظمة وفتح، ولن تتماسكا لا فتح ولا المنظمة قبل إرساء قواعد ثابتة ومستقرة لنظام سياسي ديمقراطي مرن وكفؤ وفعّال.
حينها فقط ستجد حركة حماس نفسها أمام أمرين لا ثالث لهما:
فإما الالتحاق بهذا النظام والانخراط فيه والاندماج معه وليس فيه والتعايش معه وليس الانصهار فيه؛ وإما أن تركب الموجة الإسرائيلية والأميركية وتذهب في مسارات معادية لحقوق الشعب الفلسطيني وأهدافه ومصالحه الوطنية الكبرى. وفي الحالتين تكون القضية الوطنية قد كسبت.
فإذا انخرطت «حماس» في هذا النظام فهو خير عميم ومصلحة وطنية كبيرة، وقد يكون لهذا الانخراط أثر استراتيجي هائل وأكبر بكثير مما تبدو عليه الأمور الآن.
أما إذا اختارت «حماس» حينها الدخول في الدهاليز المعدة لها ولنا ولكل فلسطيني، أي دهاليز الكيانات المؤقتة الموعودة، ودهاليز الشرك القاتل بالذهاب للرقص في تلك الحلبة، فإن النظام السياسي الفلسطيني سيكون مجبراً على إحداث تكيّفات استراتيجية كبيرة من شأنها أن تعيد تنظيم الحالة الوطنية وفق هذا المنعطف، ووفق آثاره المحتملة، وما سيترتب عليه من تعديلات قد تكون جوهرية وعميقة وأعمق بكثير مما عرفناه في تاريخ هذا النظام.
قبل عدة أشهر وقبل عدة سنوات وبصورة شبه دائمة قلنا على صفحات «الأيام» بأن حركة حماس ليست مهتمة في الواقع إلاّ بحركة حماس، وموظفي حركة حماس، ومستقبل تحكمها في القطاع، وأن آخر ما تفكّر فيه حركة حماس هو شقاء الشعب الفلسطيني وحصاره وحرمانه واحتياجاته، وهي ـ أي حركة حماس ـ حتى عندما تغلّف مصالحها الخاصة بالمصالح العامة فإنها سرعان ما تكشف عن هذا التغليف عندما يتم الدخول في الحلول الملموسة للمشكلات القائمة والمطروحة.
أما صفقة القرن والأخطار المحدقة ب القدس وقضية اللاجئين وغيرها وغيرها فإن الموقع الحقيقي لها كلها هو الديباجة وليس متن الاتفاق ولا تفاصيله وليس بنوده أو آليات الوصول إليه.
وسواء كانت الأخبار القادمة من القاهرة على هذا الصعيد صحيحة أو دقيقة أو مبالغاً فيها، فالأمر سيان، لأن ما تسرب منها حتى الآن على الأقل هو موقع ومصالح ودور حركة حماس وليس أي شيء آخر، وسواء تم اعتماد الورقة المصرية الجديدة، أو عادت حركة حماس إلى اعتماد ما بشرنا به العمادي قبل يومين فإن الأمر واحد، والثابت واحد والجوهر واحد.
سيقولون للوسيط المصري وللوسيط القطري والتركي أو مندوب الأمم المتحدة أو أي وسيط ومندوب نفس الكلام: من سيحكم غزة وكيف؟
ماذا عن الموظفين؟
ماذا عن دور حماس؟
أين موقع المجلس التشريعي في النظام السياسي؟
وكيف ستكون عليه حكومة الوحدة الوطنية وما هو دور حركة حماس في هذا كله؟
وسيقولون ويطلبون من كل الوسطاء وكل الداخلين على خطوط الوساطة نفس المطالب الخاصة بحركة حماس، على أن يختار الوسيط المعني الديباجة التي يحب أو يفضل، وستكون حركة حماس مرنة إلى أبعد الحدود في مضمون وسياق هذه الديباجة.
مشكلة حركة حماس اليوم تبدو صعبة للغاية، لماذا؟
فحركة حماس ليس أمامها هوامش واسعة للمناورة بين الوسطاء المصريين والوسيط القطري.
فالقاهرة لن تقبل باي دور حقيقي لقطر وتركيا، وإن هي غضت الطرف عن هذا الدور فمن المؤكد أن القاهرة ستفعل ذلك فقط عندما تتيقّن أن السفير القطري والحليف التركي قد أصبحا خارج الصلة الفعلية للمسألة.
ما يعني أن قبول حركة حماس بالبشائر التي أعلن عنها السفير القطري ستعني تخلي القاهرة عن أي «احتضان» لحركة حماس، وربما تصل الأمور إلى أبعد من ذلك بكثير.
أما إذا تهربت حركة حماس من كلا الوساطتين حتى لا تخسر أحد الأطراف، فإن هامش المناورة الوحيد هو قبول خطة ملادينوف مع معرفتها وعلمها المسبق واليقيني أن الاستجابة لملادينوف ستكون بتبعات كبيرة، وقد لا تقل خطورة عن خسارة أحد أطراف الوساطة.
أما إذا اختارت حركة حماس كل هذا المأزق، ورفضت الخضوع للشروط الإسرائيلية التي باتت واضحة أشد الوضوح في تخيير حركة حماس بين وقف كل النشاطات بما في ذلك الطائرات الورقية وبين حرب أو معركة عسكرية كبيرة فإنها أي حركة حماس تغامر بما هو أكبر من خسارة طرف من أطراف الوساطة، وبالمقابل فإن قبول حركة حماس بالشروط الإسرائيلية الآتية على شكل تهديدات موثقة، فإن كل معادلة «الردع» ستنهار، وستنهار معها الماكينة الإعلامية التي كانت تتحدث عن قصف مقابل قصف، وتصعيد مقابل تصعيد.
الإمكانية الوحيدة المتاحة أمام حركة حماس هي أن تقبل بمضمون الورقة المصرية، وأن يقبل السفير القطري على مضض بالورقة المصرية وأن «يتفهم» هذا السفير عمق المأزق الذي وجدت حماس نفسها فيه.
بدون ذلك فإن كل المؤشرات تتجه نحو معركة عسكرية كبيرة قد تصل إلى درجة الحسم.
ومع أن إسرائيل تدرك مخاطر هذه المعركة على استراتيجيتها في إبقاء الانقسام، وتكريس الانفصال، إلاّ أن الآليات السياسية الداخلية فيها قد تخرج القطار الإسرائيلي عن سكة هذه الاستراتيجية.
لهذا، فعلى المتفائلين أن يضبطوا مشاعرهم قليلاً، وعلى المتشائمين أن يتمسكوا بفسحة الأمل الأخيرة، لأن الأمور مركبة والحالة في حقيقة الأمر مْغَرْزِة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد