المناوشات الأخيرة بين جيش الاحتلال الإسرائيلي والفصائل الفلسطينية في غزة وقبلها مسيرات العودة وموجة الطائرات الورقية والبالونات الحارقة، تظهر أن الحكومة الإسرائيلية التي يقودها بنيامين نتنياهو ليست لديها سياسة واضحة تجاه غزة، لا في حرب تسقط حكم حركة " حماس " ولا في الذهاب نحو تهدئة طويلة الأمد إلا ضمن شروط لا يمكن لـ"حماس" أن تقبل بها. والواضح أن التكتيك الإسرائيلي يعتمد على سياسة الاحتواء بتوجيه النار غلى غزة بما يقنع المواطنين بالتوقف عن إطلاق الصواريخ والقذائف والتهديد بالرد العسكري وبتفويض جيش الاحتلال بمهاجمة مطلقي الطائرات الورقية والبالونات من غزة. 


ولكن أهم ما حصل خلال الجدل الداخلي الإسرائيلي أن جزءاً ممن كانوا محسوبين على اليسار الإسرائيلي يهاجمون نتنياهو باعتباره لا يعرف كيف يرد على "حماس" أو يردعها، وبعضهم طالب بحرب شاملة على قطاع غزة، وآخرون بالرجوع إلى سياسة الاغتيالات، بينما اليمين اتسم بالعقلانية نسبياً باستثناء بعض الأصوات التي طالبت بحرب شاملة. 
جزء من الجدل الإسرائيلي الداخلي يعبر عن مناكفات سياسية، وجزء آخر منه يعبر عن حالة العجز الإسرائيلي في مواجهة غزة، وما يسميه بعض الإسرائيليين "تآكل قوة الردع" التي حققتها إسرائيل في الحرب الأخيرة على غزة في العام 2014.


ولكن مع ذلك هناك من يدّعي أن الوضع العام في إسرائيل جيد جداً وبالإمكان التعايش مع المناوشات أو ما يسمونه حرب الاستنزاف بالحرائق. 


ويميل قسم من المحللين إلى الاعتقاد بأن سلاح الحرائق الغزي الجديد سيتوقف من خلال الضغط على "حماس"، وربما يستهدف الضغط في صورته القادمة تدمير منشآت اقتصادية تملكها "حماس" على قاعدة الخسائر بالخسائر، أي على نفس قاعدة القصف بالقصف التي اعتمدتها الفصائل في غزة.


في الواقع إسرائيل في أفضل أوضاعها، ويمكن لنتنياهو أن يدّعي أنه حقق ما لم يحققه غيره من رؤساء الحكومة الإسرائيليين، فقد حسّن من علاقة إسرائيل الدولية مع دول لم تكن إسرائيل على علاقة جيدة بها في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، ويتمتع بعلاقة جيدة جداً مع روسيا والرئيس فلاديمير بوتين على وجه الخصوص، وكذلك مع الصين التي زادت كثيراً من حجم التعاون بينها وبين إسرائيل في الفترة الأخيرة.


بل يستطيع أن يسجل لنفسه إنجازاً في العلاقات مع بعض الدول العربية وخاصة دول الخليج التي باتت تتحدث عن تحالف مع إسرائيل ضد إيران، وحتى لو لم تصل العلاقات على المستوى العلني والرسمي بسبب الخوف من الشعوب العربية التي لا تقبل مثل هذه العلاقة قبل تسوية القضية الفلسطينية، وبسبب إجراءات إسرائيل الاحتلالية في القدس والمناطق المحتلة. 


والإنجاز الأهم هو بموقف الإدارة الأميركية بزعامة دونالد ترامب التي فعلت ما لم تفعله سابقاتها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس. 
وعلى مستوى التسوية السياسية فنتنياهو يتمتع بانتهاء العملية السياسية بصورة شبه تامة واختفاء أي مبادرات سياسية جديدة تقوم على المفاوضات باعتماد مرجعية واضحة، وحتى فكرة المؤتمر الدولي التي طرحتها فرنسا ولم تحظ بقبول إسرائيلي أو أميركي تقريباً في حالة موت سريري. ويمكنه التعاطي مع خطة ترامب بالاعتماد على الرفض الفلسطيني لها، ولهذا فمن وجهة نظره ستولد ميتة هذا إن ولدت أساساً.


وهناك إنجازات اقتصادية ملموسة لحكومة نتنياهو حيث تحسن الاقتصاد الإسرائيلي في السنوات الأخيرة وارتفع معدل النمو، كما قامت إسرائيل بمشاريع بنى تحتية ضخمة، عدا اكتشاف الغاز بكميات تجارية. 


ولكن النجاح الأهم لنتنياهو ولليمين المتطرف هو بتغيير بنى دولة إسرائيل بشكل يلغي الدولة التي أقامها حزب "مباي" و"العمل" ويحولها إلى دولة صهيونية دينية من طراز آخر، وفي هذا السياق عمد إلى إحداث ثورة في القضاء الإسرائيلي سواء بتعيين القضاة في المحكمة العليا أو في صلاحيات المحكمة نفسها، ونفس الشيء في الإعلام الرسمي الذي تحكم فيه بصورة شاملة وغير شكل ومضمون سلطة البث إلى اتحاد يتحكم فيه ويقرر هو من يشغل مواقعه. 


وأخيراً تعديل القوانين الناظمة لإسرائيل أو ما يسمونها قوانين الأساس، وخاصة سن قانون القومية. 


وبعد احتجاجات على صيغة القانون المقترحة من حزب "الليكود"، التي تميز بشكل عنصري بين المواطنين في السكن على أساس قومي وديني، تم تعديل الصيغة بالاتفاق بين نتنياهو ونفتالي بينت رئيس حزب "البيت اليهودي" على اعتماد صيغة أقل إشكالية على المستوى الدولي وهي "الدولة ترى في تنمية الاستيطان اليهودي قيمة قومية وستعمل على تشجيع وتعزيز إنشائه وتدعيمه".  


وعموماً بهذا القانون تلغى الصيغة السابقة لتعريف إسرائيل كدولة "يهودية ديمقراطية" أو ما يسمونه الغموض القومي في التعريف لجهة تعريف إسرائيل بأنها "الوطن القومي للشعب اليهودي". 


وكل استطلاعات الرأي الأخيرة تظهر تفوق اليمين الاستيطاني، وعموماً يحصل ائتلاف نتنياهو على حوالى 64 مقعداً في معظم الاستطلاعات، وهو بالتالي ليس بحاجة إلى التورط في حرب في غزة أو في أي مكان قد يترتب عليها خسارة لإسرائيل وخسارة له شخصياً، ولكن بما أنه لا توجد استراتيجية بعيدة المدى للتعاطي مع غزة فالسياسة القائمة على الاحتواء قد تتغير في أي لحظة إذا ما حصلت تطورات لا يمكن للحكومة احتمالها، مثل سقوط خسائر بشرية جراء إطلاق صواريخ وقذائف من قطاع غزة، وتذهب إسرائيل نحو حرب محدودة أو واسعة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد