بلا أدنى شك لو خُيرّت أي أم بين أن يكون ابنها طالباً حياً راسباً أو طالباً ميتاً ناجحاً لاختارت الأولى ولأسرعت بالقول « لَيْتَهُ رَسَبَ...» وليت في اللغة العربية حرف ناسخ يُفيد التمني، ويُستعمل غالباً للمستحيل، كأن نقول (ليت الشبابَ يعود يوماً) أو (ليت المسافر حاضرٌ)، وإذا كان آخر ضحايا إطلاق الرصاص في الهواء ابتهاجاً بالنجاح في الثانوية العامة الطالب رامز داود من غزة قد سقط صريعاً بسبب هذه العادة القبيحة، وهدمت حياة أسرة بأكملها تعلقت أمالها بنجاح ابنها ولا يمكن إعادته للحياة حتى لو تمنينا رسوبه منعاً لمقتله، فانه بإمكاننا على الأقل أن نوقف هذا الجنون ونمنع سقوط المزيد من الضحايا كل عام سواء في حفلات الزفاف أو احتفالات النجاح أو غيرها من المناسبات السعيدة فيحوّل الفرح إلى ترح والسعادة إلى مناحة والمسرّةَ إلى مأتم.
ظاهرة إطلاق الرصاص في المناسبات السعيدة أو الحزينة وما يُرافقها حتماً من سقوط قتلى وجرحى موجودة في كل المجتمعات العربية تقريباً وما شابهها من مجتمعات غير عربية تشاركها بعض العادات والتقاليد تعود في أصلها إلى عصر الجاهلية الذي سبق الإسلام عندما كانت القبائل العربية في الجزيرة العربية تعيش في الصحراء على التنقل والترحال والغزو- في معظمها- فأصبحت تُمجّد قيم القوة والشجاعة والرجولة وعدم الخوف من الموت التي يُعبّر عنها بحمل السلاح الضروري للدفاع عن النفس والقبيلة وغزو القبائل الأخرى، فكان حمل السلاح وإظهاره من أهم دلائل الرجولة والشجاعة والشرف والفخر، وأصبح التباهي بحمل السلاح من سمات القوة والرجولة والتلويح بالسيوف. وأدوات القتال في السلم والحرب إظهاراً للشجاعة والفخر من عادات العرب وتقاليدهم خاصة في المناسبات القبلية والاجتماعية كحفلات الزواج وغيرها.
والسلاح الأبيض كالسيوف والسهام تحوّل في العصر الحديث إلى سلاح ناري كالبندقية والرشاش، وأصبح التلويح بالسلاح الناري كما السلاح الأبيض يؤدي نفس الوظيفة التي تُظهر القوة والرجولة والشجاعة، ولم يقتصر الأمر على التلويح بل تعداه إلى إطلاق الرصاص في الهواء، ومع الوقت نسي الناس المغزى من وراء التلويح بالسلاح والوظيفة التي كان يؤديها في المجتمعات العربية القديمة ولم يبقَ إلاّ الفعل الفارغ من المضمون مُعبرّاً بطريقة مشوّهة عن الفرح والسرور والابتهاج وأحياناً في المناسبات الحزينة عند الغضب والأسى والحزن، وقد يكون مصحوباً بالتعويض عن عُقدة النقص الناجمة عن فقدان جزء من الرجولة والشجاعة بحمل السلاح وإطلاق الرصاص.
ولذلك نحن بحاجة إلى التخلّص من وهم إثبات الرجولة بحمل السلاح والتباهي به، والتحرر من خداع إثبات الشجاعة بإطلاق الرصاص والتفاخر به إلاّ في مواطن الجهاد والمقاومة، وتغيير ثقافة (السلاح زينة الرجل) فزينة الرجل علمه وتقواه وأخلاقه إلاّ في مواطن قتال العدو فقط.
لم يغفل الرسول – صلى الله عليه وسلم – عن الخطر الذي يشكله التلويح بالسلاح الأبيض على الناس، فكيف بالخطر الذي يشكله إطلاق الرصاص من السلاح الناري وليس مجرد التلويح به، فقد قال – صلى الله عليه وسلم – ناهياً ومُحرّماً مُجرد الإشارة بالسلاح في وجه الناس لا يشر أحدُكمُ إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدُكمُ لعل الشيطان ينزع من يده فيقع في حفرةٍ من النار» كما دعا – صلى الله عليه وسلم- إلى تأمين السلاح «إذا مرَّ أحدُكمُ في مسجدنا أو في سوقنا وبيده نبل فليمسك على نصالها، أو قال: فليقبض بكفة أن يُصيب أحداً من المسلمين منها بشيء» وبشكل عام فقد نهى – صلى الله عليه وسلم – عن ترويع المسلمين « لا يحل لمسلمٍ أن يُرّوع مسلماً» ومعروف كم الترويع والتخويف والإرهاب الناجم عن إطلاق النار العشوائي في المناسبات وغيرها، وليت الأمر مقتصر على الترويع والتخويف بل تجاوزه إلى إزهاق أرواح بريئة لا ذنب لها سوى أنهم جاءوا لتهنئة أصحاب الفرح بفرحهم ومشاركتهم سرورهم.
خُلاصة الأمر إن ظاهرة إطلاق الرصاص في المناسبات السعيدة كالزواج والنجاح وغير السعيدة كالجنازات وحفلات التأبين ظاهرة سيئة مُخالفة للشرع والقانون، ومخالفة لأصول الرجولة والشجاعة تحتاج لُمعالجة قانونية بتشديد العقوبة والحرص على تطبيقها، ومعالجة ثقافية عبر منابر المساجد ومنصات الإعلام وفصول الدراسة تُغّير ثقافة المجتمع لتؤكد أن زينة الرجل علمه وأخلاقه إلا في مواضع القتال ضد العدو فزينته سلاحه.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية