تمرُّ هذه الأيام الذكرى السادسة والأربعون لرحيل أحد أهم مبدعي ومثقفي الشعب الفلسطيني، وأحد أكبر القامات الإعلامية والسياسية والفكرية المعاصرة.


عندما نعاود قراءة غسان كنفاني بعد كل هذا الغياب وطوله، يبهرنا حضوره، وعندما نسترجع المجالات الإبداعية التي خاض غمارها يذهلنا اليوم أكثر من أي وقت مضى كيف اختار منها الغامض والملتبس أو المغيّب المستتر.


يا له من رجل شجاع.


من كان يقوى (في ذلك الزمان) أن يعرض ويتعرض للأدب الصهيوني؟.


كيف اهتدى غسان في ذلك الوقت المبكر إلى إرهاصات الرواية الإسرائيلية، وإلى المشروع الصهيوني في الحقل الثقافي، وكيف تنبّه في ذلك الوقت المبكّر إلى خطورة ومركزية «الأدب» في النسيج السياسي لتلك الرواية؟


كان الخوض في هذا الحقل مغامرة بحد ذاته.


العقل السياسي السائد في الساحة الفلسطينية لم يكن يفهم ولم يكن يتفهم موقع الأدب الصهيوني في معادلة الصراع، بل ويمكن القول أيضاً إن العقل السياسي النخبوي نفسه لم يكن يقدّر الدور الذي يلعبه الأدب الصهيوني أو سيلعبه لاحقاً في تزكية الأيديولوجيا العنصرية وتنقيحها وتزيين فجاجتها الفكرية.


غسان كنفاني المفكر والمبدع والزاخر بالعطاء والإنتاج النوعي المميز دفع بأطروحته الشجاعة إلى المكتبة الفلسطينية لأنه كان يعي قبلنا أو قبل الكثيرين منا أن الحرب على الرواية هي أقسى أنواع الحروب، وأن أسلحة العدل والحق والخير تحتاج إلى الكثير من الوعي والكثير من العمل الجاد لكي تصمد في مواجهة التزييف والاختلاق والفبركة والمواءمات الخادعة.


مقابل الاهتمام المبكر بالأدب الصهيوني كان غسان كنفاني من أوائل من بشروا بعد أن بحث واستقصى وتابع كل كلمة كتبت في حقل المقاومة الثقافية لشعبنا في الداخل، واختار الشعر المقاوم لكي يدحض الشعارات القومجية البلهاء التي كانت ترى بقاء الأقلية الفلسطينية هناك خضوعاً أو تماشياً أو تماهياً مع سلطة الاحتلال والإحلال.


وهنا أيضاً خاض غسان كنفاني معركة ثقافية نبيلة دفاعاً عن تلك البطولة الفلسطينية التي انطوى عليها شعر المقاومة.


عرفنا من غسان وعلى لسانه وقرأنا ما كتبه قلمه الرشيق الفياض بالوطنية الفلسطينية عن محمود درويش وسميح القاسم وتوفيق زياد وراشد حسين وغيرهم وغيرهم، لأنهم أبطال الدفاع عن الثقافة الوطنية في وجه العنصرية والحكم العسكري وفي حرب البقاء وحماية الهوية.


كأنه اختار ذلك الملتبس والغامض والمستتر ليقول لنا إن حرباً هناك تحتدم على الهوية وعلى الرواية وعلى الذاكرة، حرب الصمود في وجه الاقتلاع وحرب الهوية المفبركة ضد الهوية الموشحة بلون زهر اللوز ورائحة الزعتر وأغاني المواسم والأعياد.


حرب روايات مستجلبة من التاريخ ومستحلبة من أيديولوجيا الاقصاء والكراهية و»حقوق» التفوّق!


حرب روايات تحكي لنا كيف أن الفلسطيني هو متّهم بذنب أنه يعيش على أرضه ويحبها ويتمسك بها.


إنها أغرب أنواع التهم التي عرفها التاريخ.


كيف اهتدى غسان إلى ذلك كله في ذلك الزمان!؟


أما غسان الكاتب والروائي والقاص والرسام والإعلامي اللامع والسياسي اللبق فهذه قصة إعجازية خاصة.


عندما كنا صغاراً لم نكن ندرك ما كان يبرره على مسامعنا أستاذنا في اللغة العربية والذي حببنا باللغة العربية وزرع فينا عشقاً طفولياً لها «العبقرية تأكل صاحبها».
عندما استشهد غسان تذكرت أستاذي باللغة العربية.


روايات خالدة وقصص بالمئات وعشرات الكتب واللوحات ومقالات سياسية بالآلاف في كل مجالات وهموم فلسطين في مدة لا تتجاوز خمسة عشر سنة أو عشرين سنة على أبعد تقدير «إذا استثنينا سنوات الطفولة» أبدع فيها غسان كنفاني كل هذا الزخم وكل هذا الإنتاج النوعي المميز.


ترى ـ وهذا سؤال طرحه العشرات من المبدعين الفلسطينيين ـ لو عاش غسان كنفاني لثلاثين أو أربعين سنة أخرى ما الذي كان سيكتبه غسان، وأي إرث ثقافي كان سيقدم للأجيال الفلسطينية!؟


لقد حاولت مرة أن أُعدّ إحصائية غريبة من نوعها. حاولت أن أحصي مؤلفاته كلها، من الرواية وحتى المقالة منذ أن كان طالباً في المدرسة الإعدادية وحتى يوم اغتياله.
هل تتصوّرون النتيجة!؟


أي شخص في هذا العالم كان سيحتاج إلى عشر أو خمسة عشر سنة إضافية لإنتاج ما كتبه غسان!


كيف وجد غسان كل هذا الوقت ومن أين أتى بالزمن؟


كيف اهتدى إلى مركزية سؤال الهوية في جدران الخزان، وفي (ما تبقّى لكم)، وكيف تحولت «أم سعد» إلى ذاكرة وحكمة وطن بأكمله!


كيف انهارت في (عائد إلى حيفا) أسئلة الهوان وتحولت إلى مشروع العنفوان الوطني!؟


لماذا اختار غسان «الأعمى والأطرش» تحديداً ليقرأ على مسامعنا سرّ العلاقة بين الذل والهوان والخرافة والجهل!


وكيف أسس في هذه الرواية حكايات التمرّد الأولى، ثم لماذا اختار برقوق نيسان لمشروعه الذي لم يكتمل في تأريخ وتوثيق مشروع المقاومة الوطنية في الأرض المحتلة!
وقبلها، ألم نجهش بالبكاء على حميد (ماسح الأحذية) وعلى محمد علي أكبر ذلك العمانيّ العليل الذي كان يرفض إلاّ أن يقال اسمه كله ومرة واحدة خوفاً على نفسه من العيب والسمعة السيئة!


لو لم يكن شعبنا عظيماً لما أنجب مبدعاً بقامة غسان، تماماً كما أنجب العشرات من عباقرة الثقافة الوطنية، ولو لم يكن هؤلاء من رواد العشق الوطني لما كنّا أمام كل هذا الغنى من الإبداع.


كان الشعب الفلسطيني أحسّ بأن الخسارات الكبيرة ترافقت أيضاً وعوضت أحياناً بثراء الإبداع.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد