ربما أكثر الأشياء إثارة في مونديال روسيا 2018 هو سقوط الكبار. السقوط المدوي لأباطرة كرة القدم تاريخياً، وسقوط كل تلك الفرق الكبرى التي كان يتوقع لأحدها أن يحمل الكأس هذه المرة. لم تدخل إيطاليا من الأساس وفشل فريقها على صخرة التصفيات في الوصول إلى موسكو، وظل واحداً من أكثر الفرق عراقة وواحداً من أهم من لعب كرة القدم خارج المنافسة. ثم سقطت ألمانيا حاملة اللقب في الجولة الأولى ولم تذهب بعيداً، إذ تحطمت أمانيها في المرحلة الأولى. أما الأرجنتين وأسبانيا صاحبتا الحظ الوفير في الحصول على الكأس لقوة منتخبيهما فقد تعثرتا في الجولة الثانية وسقطتا بطريقة محزنة ودون شفقة أمام فرق ليس من عادتها أن تقوم بالمعجزات. ثم جاء دور أهم فريق في التاريخ، الفريق البرازيلي، حامل الكأس لخمس مرات، وفريق النجوم الكبار وصانعي الألعاب وأبطال المباريات والإثارة. سقط الكبار وظل المربع الذهبي محصوراً بين فرق لم يكن من المتوقع أن تصل إلى منصة التتويج. ربما الفريق البلجيكي من الفرق التي كان متوقعاً أن يقدم أداءً متميزاً لكن ليس إلى الحد الذي يقصى فيه رفاق نيمار.


عموماً هذا ما ميز كأس العالم بطبعته الروسية، وربما هذه الإثارة أحد أهم الأشياء التي سيتم تذكرها عنه. فهذا مونديال "بقية العالم" على حد توصيف الشوالي في تعليقاته. فحين يتم الحديث عن كأس العالم يتم الحديث أولاً عن الكبار: البرازيل وإيطاليا وألمانيا والأرجنتين والأورغواي والمكسيك. وحين يخرج هؤلاء فإن الحديث ينحصر في بقية العالم المشارك في اللعبة. وعليه فهي كأس حقيقية. كأس عالم حقيقية. تخيلوا الأمم المتحدة وقد تبدل حق النقض فيها من الخمسة الكبار إلى خمسة آخرين كل عقد من الزمن أو بين جلسة وأخرى، لا بد من أن شكل السياسة الدولية سيكون مختلفاً. ولكن حتى لا نشطح فإن هذا ليس درساً لنتعلمه من المونديال، فالمونديال للإثارة والمتعة، أما السياسة فهي تقاليد الحكم والصرامة.

وربما أن الكبار يسقطون في الكرة لكن كبار السياسة لا يتبدلون بسهولة. سيأتي يوم ويتغير مسار العلاقات وموازين القوة وتنتقل من ضفة الأطلس البعيدة إلى مكان آخر كما جرت عادة الانتقالات الحضارية. لاحظوا كيف كان مركز الحضارة تاريخياً على ضفاف الأنهر في المنطقة العربية، سواء على ضفاف دجلة أو نهر الأردن أو النيل ثم انتقل إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشرقية والجنوبية (يافا وعكا وصور) قبل أن ينتقل إلى شواطئه الشمالية حيث أثينا وروما، وبعد ذلك إلى الجهة الأوروبية من المحيط الأطلسي حيث لندن وباريس ومدن بلجيكا وموانئ البرتغال وأسبانيا (الحقبة الاستعمارية) ومع هزيمة أوروبا وتمزقها إثر الحرب العالمية الثانية انتقل مركز الحضارة إلى الضفة الأميركية من المحيط الأطلسي. بمعنى آخر فإن تاريخ الحضارة تاريخ سقوط ونهوض، لكنه تاريخ تراكمي في نفس الوقت.


في سياق قريب، ثمة ملاحظتان واجبتان في هذا السياق. الأولى تتعلق بسقوط جميع الفرق العربية. هذا المونديال شهد أكبر مشاركة للعرب في تاريخ المونديال. لكن هل هناك عربي واحد لم يشعر بالخجل من مشاركة ومباريات بعض الفرق العربية. من غير المعقول أن أربعة فرق عربية لم تنجح واحدة منها في الصعود إلى الدرجة الثانية. وربما باستثناء مباراة تونس مع بنما التي شهدت أول نصر عربي حقيقي في المونديال، فإن مشاركات العرب كان محزنة. صحيح أن السعودية تغلبت على مصر لكن حتى هذا لا يعد انتصاراً. عموماً فإن مباريات المغرب كانت مثيرة وتستحق التشجيع خاصة اللعبة الصعبة مع البرتغال التي انتهت بالتعادل. بالمجمل لم يكن ثمة إثارة عربية. كان يمكن تقديم الأفضل، والأفضل كان ممكناً. 


في مرات تشعر بأن السقوط سقوط في كل شيء. فالحالة العربية الضعيفة ليست ضعيفة على مستوى الأداء السياسي ولا على صعيد القوة الحقيقية، بل أيضاً حين يتعلق الأمر في لعبة كرة قدم لا تحتاج للكثير من عناصر القوة. فبعض الدول الضعيفة تكون قوية في كرة القدم، بل إن سجل العرب يكاد يكون الأسوأ من بين سجل كل الأمم التي شاركت في المونديال منذ أقل من قرن من الزمن. هذا إذا عرفنا أن العرب صعدوا إلى دور الـ16 مرتين فقط. طبعاً قائمة الانحدار العربية طويلة وقاهرة؛ فهي ليست محصورة في السياسة والقوة وكرة القدم، بل تشكل البحث العلمي والاختراع، وحتى النزاهة والشفافية.


أيضاً لم يسبق أن كانت أي دولة أفريقية أو آسيوية في المربع الذهبي لكأس العالم. كأن ثمة كبار في القارتين العجوز واللاتينية يحتكرون المشهد. صحيح أن المفاجأة هذه المرة أن المربع الصغير خلا من أي من فرق أميركا اللاتينية، لكن أيضاً لم يسبق لأي دولة غير أوروبية أو لاتينية أن دخلته. وهذا أيضاً فيه من السياسة أشياء كثيرة.


لكن يظل درس السياسة الأهم ربما هو أن عرض الرجل الواحد لا مكان له في كرة القدم. لاحظوا أن جميع الفرق التي اعتمدت في مجدها في هذا المونديال على الأسماء الكبار سقطت. ربما أول كل الفرق تبادراً للأذهان الفريق المصري الشقيق، حيث لم يسعفه وجود محمد صلاح نجم ليفربول في الفوز بمباراة واحدة. النجم لا يصنع مباراة ولا يستطيع تحقيق الانتصار وحده. وهذا فيه الكثير من السياسة والديمقراطية. أيضاً فريق الأرجنتين العريق الذي ضم أفضل لاعب ربما في التاريخ هو ليونيل ميسي، بالكاد تجاوز المرحلة الأولى ثم وقع مغشياً على وجهه في الدور الثاني، والأمر نفسه ينسحب على فريق نجم ريال مدريد رونالدو الذي لم يمض بعيداً مع المنتخب البرتغالي في مشوار الكأس. كذلك فريق بحجم البرازيل، ربما باستثناء دموع نيمار بعد تسجيله لهدفه الأول في المونديال في مباراة فريقه الثانية فإنه لم يكن ذا نفع. النجوم لا يصنعون فرقاً، كما الأفراد لا يصنعون دولاً. لاحظوا الفرق التي صنعت المعجزات كانت بلا نجوم كبار. صحيح أن بلجيكا فريق مليء بالكبار، لكنه فريق متكامل لا يوجد به نجم شباك مثل ميسي أو نيمار أو صلاح أو رونالدو، كذلك كرواتيا، وأيضاً روسيا التي كان صعودها مدوياً وكذلك سقوطها أمام كرواتيا.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد