عندما تكون الحسابات صغيرة فمن المؤكد أنها ستبدد الكثير من الأهداف الكبيرة.
هكذا كان الأمر دائماً، وهكذا هي نتائج الخبرة السياسية على مرّ الزمان.
يقولون في الأمثال الشعبية (مثل الذي يهرب من الدلف فإذا به تحت المزراب).
هذا هو حال حركة حماس إن قبلت بما بات يسمّى المبادرات الإنسانية. ستكتشف متأخراً أنهم دسوا لها السم في الدسم. تتصور أنها ستخرج من المأزق لتجد نفسها في مقتل.
هناك من يصوّر لحركة حماس أن محطة تحلية وميناء إسرائيلياً في قبرص أو غيرها سيُخرج القطاع من الأزمة الاقتصادية الخانقة، وهناك من يُزيّن لها هذه الأمور ويحاول تسويقها على أنها مسألة إنسانية خالصة، ولا علاقة لها «من قريب أو بعيد» بالسياسة ومتطلباتها وشروطها واستحقاقاتها.
صحيح أن البعض في «حماس» بات يخشى من تبعات هذه المبادرات، لكن الصحيح أيضاً، أن قوة الدفع الداخلي في حركة حماس تضغط باتجاه «القبول» بهذه المبادرات، والانخراط في هذه «الصُّفيقة» الصغيرة، واختبار فيما إذا كانت هذه الصفقة الصغيرة يمكن أن تظل بحجمها، وفيما إذا كان ممكناً «التوقف» عند أبعادها الاقتصادية، وعند خطوط التماس مع أبعادها السياسية فقط.
إسرائيل في الواقع كانت مترددة تماماً كما كانت الإدارة الأميركية مترددة في الذهاب إلى هكذا صفقة في اطار الحسابات الكبيرة لهما معاً.
الولايات المتحدة كانت تراهن على أن تقبل القيادة الفلسطينية ب صفقة القرن ، أو تقف منها موقفاً موارباً، وكانت تراهن على أن العالم العربي الحليف لها سيكمل المهمة «ويروّض» القيادة الفلسطينية، وإلى حينه لم تكن الولايات المتحدة تحبّذ هذه المبادرة «الإنسانية»، لأن من شأن ذلك تقوية «حماس» على حساب الشرعية الفلسطينية، ومن شأن ذلك أن يضعف قدرة القيادة الفلسطينية على إيجاد صيغة للتعايش مع صفقة القرن.
لكن عندما وقفت القيادة الفلسطينية ضد هذه الصفقة بكل قوة، وعندما تصدت لها على كل المستويات، وجرّدتها من كل غطاء، ونزعت عنها كل الشرعيات، وحاصرتها دولياً وإقليمياً وعزلت مفاعيلها على كل المستويات، تغير الموقف الأميركي وتغير لاحقاً الموقف الإسرائيلي، وتحول المدخل «الإنساني» إلى الطريقة الوحيدة للتحايل على فشل صفقة القرن من جهة، ولإضعاف القيادة الشرعية من جهة أخرى، وإلاّ لماذا لم يستيقظ «الضمير» الأميركي إلاّ عندما بدأت صفقة القرن بالتعثر إن لم نقل بالترنُّح؟ ثم ماذا أدخلت «قطر» على خط المدخل الإنساني بعد قمة الظهران وبعد أن سمع كوشنير ما سمعه من العرب، وما صرح به؟
استنجدت الإدارة الأميركية وربما إسرائيل بقطر لأنها الأكثر تأثيراً على «حماس» ولأنها موثوقة من الناحية الإسرائيلية، ثم لأنها باتت (أي قطر) مستعدة «للإسهام» الكبير في هذا الشأن علّ ذلك يقوي من أسهمها لدى ترامب وإدارته في الصراع مع الدول المقاطعة.
وحتى يستقيم هذا الكلام ويصل إلى مداه الذي يجب أن يصل إليه، فإننا نتوقع أن جمهورية مصر العربية التي نكنّ لها احتراماً خاصاً وخالصاً تنأى بنفسها عن هذه اللعبة التي تلعبها كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وتفصل فصلاً كاملاً وواضحاً ما بين الاحتياجات الإنسانية التي تعرفها مصر وتدرك أبعادها وما بين تحويل هذه الاحتياجات إلى المعول الذي يستخدم لهدم البيت الفلسطيني عوضاً أو بدلاً من إصلاحه.
ولماذا لا يكون الموقف العربي مسانداً وداعماً خالصاً للشرعية الوطنية ويلقي بثقله لإنجاز المصالحة وإنهاء الانقسام بدلاً من إعطاء هذا الانقسام المزيد من فرص البقاء والتكريس النهائي؟
وبالمقابل، ألم يعد ملحّاً أكثر من أي وقت مضى أن تلتقط القيادة الشرعية الفلسطينية هذه الفرصة لتفويت الفرصة على كل من يخططون لهدم البيت الفلسطيني بتجريد حركة حماس من كل الأعذار والحجج التي تتلطّى وراءها لإخفاء أهدافها الكامنة بالبقاء ممسكة بخناق القطاع، بعد أن بقي رهينةً على مدى ما يزيد على 10 سنوات كاملة؟
ألا يحتّم هذا الأمر على القيادة الوطنية الشرعية أن تسحب البساط وتدعو إلى حوار وطني شامل لإلزام الكل الفلسطيني بخارطة طريق متوافق عليها لإفشال الصفقة؟!
وماذا نخسر لو حوّلنا المصالحة وإنهاء الانقسام من قضية فنية وإجرائية، إلى قضية سياسية كبرى، وبدأنا من هناك، بحيث يتحول التوافق على ذلك إلى المدخل المباشر لإجراءات إنهاء الانقسام؟
ولماذا لا يتم التوافق وفوراً على إعادة إدماج كامل اقتصاد غزة بالاقتصاد الوطني في اطار خطة متوسطة المدى ولها إجراءاتها المباشرة الفورية، حتى يتم سحب كل الذرائع من المتربصين بالوطن الفلسطيني وشعبه وقضيته؟
الرئيس أبو مازن هو الشخص الوحيد من الزاوية القانونية والسياسية والاعتبارية القادر على إحداث هذا الفرق الهائل بين محاولات ومحاولات تجري منذ سنوات دون فائدة ولا طائل، وبين وضع حدٍّ نهائي لهذه الكارثة التي وجدنا أنفسنا في معمعانها منذ اليوم الأول للانقلاب الأسود وحتى الآن.
لقد وصلنا إلى وضع بتنا بحاجة بموجبه لخوض معركة الصمود ليس من موقع تصدير الأعذار والتنافس على إثبات الخطأ لهذه الجهة أو تلك، بل من موقع تقدير الخطر وكيفية مواجهته.
ليس لدينا ترف كافٍ لنستمر في لعبة إلقاء التهم وتحميل المسؤوليات.
نحن في الواقع أمام حرب تخاض ضدنا من كل الاتجاهات وبكل أنواع الأسلحة.
ليس سهلاً أن نخرج منها بالنصر المبين، ولكن من السهل علينا أن نمنع كل من تسوّل له نفسه التطاول على حقوقنا أن يحقق نصره علينا. وبهذا المعنى بالذات فإن فلسطين ستخرج منتصرة، وتتحول الدولة المستقلة إلى البند الوحيد على جدول أعمال هذا الإقليم.
أقصد أن إنهاء الانقسام لم يعد موضوع وحدةٍ وتماسك وصمود ضد الأخطار فقط، بل تحول موضوعياً إلى المدخل الوحيد لإجبار كل من يهمه الأمر على التسليم بحقوقنا. وبهذا المعنى فإن إنهاء الانقسام هو عنوان صمود وعنوان حرية قادمة.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية