حظيت مسيرات العودة باهتمام دولي واسع ، وربما أن مرد الاهتمام الدولي ليست الاهمية التي يوليها المجتمع الدولي لقضية اللاجئين، بل حقيقة الاهتمام بمصير قطاع غزة .
هذا القول لا ينتقص من قيمة وأهمية قضية اللاجئين لكنه يشير إلى منابع ودوافع الاهتمام بما كان يجري في غزة حتى الخامس من آيار الموعد الذي تم تحديده للمسيرة الكبرى من أجل العودة. المسيرات المتتالية طوال الأسابيع الاولى نجحت في تسليط الضوء على حق العودة بوصفه الحق الأساس الذي يبحث عنه الفلسطينيون رغم أن الكثير من أهداف بعض المشاركين في المسيرة لم تكن إلا آنية، وربما أن بعض التصريحات المسيئة للفعل الميداني كشفت بعض هذه النوازع، خاصة تلك التي حولت الشهداء إلى أرقام حزبية.
ايضاً هذا ليس باب القصيد. غاية القول هنا ان الاهتمام العالمي كان حول مصير قطاع غزة ومصير المواجهة المرتقبة بين القطاع ودولة الاحتلال. على هامش هذا تم استحضار حق العودة الفلسطيني بوصفه أساس كل الحقوق، لكن هذا الاستحضار لم يتم إلا على صعيد الإعلام والنقاش حول مسيرات غزة. كأن الكثير من النخب خاصة في أوروبا تذكرت أن قضية الفلسطينيين هي قضية لاجئين في الأساس. ويمكن بقراءة مقالات الرأي في كبريات الصحف الأوروبية والأمريكية الاستدلال على الاكتشاف المذهل. بل إن هذه الصحف استكتبت كتاباً من داخل فلسطين ليتحدثوا عن حق العودة وعن فهمهم له. لم يكن الأمر انحيازاً للرواية الفلسطينية، بل إنه في الكثير من الأحيان كانت الرواية الإسرائيلية ومخاوف المزارعين المستوطنين حول غزة او ما يعرف في الإعلام بغلاف غزة كانت أكثر حضوراً من دموع والدة رزان النجار أو آهات الجرحى مبتوري الاطراف وهم يئنون في المستشفيات. الرواية الإسرائيلية لم تغب، بل ظلت دائمة الحضور رغم استحضار الرواية الفلسطينية للتعبير عن الموقف. الصحف الكبرى تخشى من نقص التغطية، لذا تلجأ إلا سد الفراغ دون ان تسعى إلى الاتزان، وان كان هذا الاتزان هو ما يتم التعبير عن الرغبة في تحقيقه. مثلاً خلال العدوان الإسرائيلي على غزة خلال صيف العام 2014 كتبت مجموعة من المقالات في صفحة الرأي في نيويورك وكانت عبارة عن يوميات شخصية، وامام النقد الذي وجهت به الصحيفة من اللوبي اليهودي بسبب نشرها "المنحاز" للرواية الفلسطينية، قامت في الأيام التالية بنشر مقالات لكتاب إسرائيليين وتغطيات أوسع حول "المعاناة" المزعومة للمستوطنين حول غزة. للحروب تأثيرها في مرات كثيرة على وعي المحررين حين يضطرون إلى مجاراة ردة الفعل الشعبية والتعاطف ولو اللحظي. هذا ما أشار إليه تشومسكي في تعليقه على ذات النقطة بعد عدوان العام 2014 وانزياح الإعلام الأمريكي الاضطراري للتغطية الفلسطينية وخاصة في أشارته لصحيفة نيويورك نايمز.
ما أرمى إليه هنا أن ثمة اهتمام دولي بمسيرات العودة وهو اهتمام عكس نفسه ليس فقط بالتغطيات وباستكتاب الفلسطينيين للتعبير عن هذا الحق، وإن لم يكن هو المقصود بذلك، ولكن أيضاً بإثارة نقاش واسع حول المستقبل الفلسطيني، لكنه كان المستقبل الفلسطيني في قطاع غزة. غزة قضية ساخنة في الأخبار. وهي بفعل تفاصيل كثيرة اكتسبت اهمية خاصة ربما أكثرها جذباً النقاش حول مصير غزة المنفصل عن المصير الفلسطيني. ربما لا نقصد ذلك لكن استمرار الإنقسام وسيطرة حماس بالقوة على قطاع غزة وتعثر كل جهود المصالحة والصورة التي قدمتها حماس عن غزة بقصد من البعض وربما بدون قصد من البعض الآخر فيها، أن غزة هي موطن إمارة الإسلام السياسي القادمة، وتنامي خطاب دولة غزة حتى في إشارات بعض قادة حماس، وفي لغة بعض قادة دولة الاحتلال وفي بعض التدخلات الدولية، والتركيز على السياق الإنساني في غزة بوصف أزمة غزة هي أزمة عائلة تبحث عن كابونة، وفي هذه الحالة لا يعود مهماً الهوية السياسية للكابونة. أمام كل هذا فإن اهتمام الإعلام الدولي بما جري في غزة خلال مسيرات العودة كان ينصب حول السؤال عن مصير القطاع فيما لو قادت هذه المسيرات إلى مواجهات من نوع ما مع دولة الاحتلال، مثل أن يتم اختراق الحدود وعبور الآلاف داخل السياج أو رد الفعل الإسرائيلي على صيغة عدوان جديد يتم فيه تبادل القصف (بلغة البعض دون الالتفات إلى اننا شعب محتل أعزل ومهما فعلنا فإنه يقع في باب الدفاع عن النفس).
مقابل كل هذا فإن مسيرات العودة نجحت في استقطاب اهتمام شعبي خاصة في أوروبا وتفاعلت معه بنشاط مجموعات التضامن مع الشعب الفلسطيني في كافة الدول الاوروبية، وخرجت المظاهرات المساندة في المدن والعواصم المختلفة وشهدت منصات التواصل الاجتماعي تفاعلاً كبيراً وتناقلاً متواصلاً لأكثر التفاصيل دقة حول ما يجري. الفكرة تركزت على أن ثمة فعل فلسطيني ميداني يسلط الضوء على الأزمة الفلسطينية. صحيح أن بعض شعارات لجان التضامن تأثرت بالخطاب المحلي الذي يركز على غزة على حساب الخاطب الوطني العام، إلا أن مراقبة التفاعل الشعبي مع مسيرات العودة في اوروبا تحديداً يكشف عن الدور الكبير الذي قامت به عبر تغذية النشطاء والمتضامنين بالكثير من المواد للتشهير بالاحتلال وجرائمه.
لكن لم يكن ثمة تجاوب وتفاعل على الصعيد الرسمي. نجحت مسيرات العودة لأسباب متباينة باستقطاب التغطية الإعلامية الدولية والاهتمام الشعبي في اوروبا لكنها لم تنجح في كسب التعاطف الرسمي هناك. صحيح أن بعض التصريحات التي خرجت من العواصم الأوروبية والخطابات في مجلس الأمن خاصة من مندوب فنزويلا عبرت بقوة عن تعاطف وحضور للقضية الفلسطينية، لكن لم يكن ثمة تحرك دولي حقيقي يوازي الفعل المطلوب، ولم يكن التفاعل الرسمي إلا بنفس المستوى الذي يمكن لأي تصعيد إسرائيلي أن يلقاه في المحافل الدولية، وهو تفاعل مستمر رغم كل قرارات النقض الأمريكية. هذا يستحق التأمل والتفكير لأنه يخبرنا عن الكثير من عقل المجتمع الدولي وقلبه أيضاً، لكنه أيضاً يكشف لنا بعضاً من الطريق.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية