تصرف الأردنيون بوعي لمواجهة التحديات، وقدموا نموذجاً في ادارة حراكاتهم الاحتجاجية، وسجلوا مرة أخرى قدرة للشارع في اسقاط حكومتهم بوسيلة مدنية وأدوات سلمية دفعت صاحب القرار، للاستجابة لتطلعاتهم ونالوا سلوكاً حكومياً وأمنياً راقياً للتعامل معهم، وسجل رأس الدولة اختياراً موفقاً لرئيس حكومة نزيه يمكن أن يدفع التجربة الأردنية لمزيد من التماسك والعصرنة ونحو خيار توسيع قاعدة الشراكة.
رئيس الحكومة امتلك ثلاثة عوامل فريدة، أولها: دعم الشارع بقوة ورهانه عليه، وثانيها: ضمانة رأس الدولة في اسناده، وثالثها: الوقت الكافي في اختيار وزرائه، ولكنه أحبط الأردنيين وضيع علينا فرصة تعزيز الاتجاه نحو الاختيار من خارج الصندوق، وبذلك “كسر عصاته من أول غزواته” وبان المكتوب من عنوانه، وهكذا أضاف رئيس الوزراء نفسه الى سجل الرؤساء دون اضافة نوعية وسار على نفس التقليد المتبع المثقل بالتجاوب مع قوى الشد العكسي ومؤسسات الدولة العميقة التي تتحكم بالمسار والتي أفشلت لهذا الوقت كل محاولات تعزيز فرص الاصلاح السياسي وعرقلة الخيار الديمقراطي.
فرصة الرزاز عاشها الرئيس طاهر المصري في تجربة سياسية اقتصادية مماثلة، حينما وقع الخلل في التوازن الدولي بعد هزيمة الشيوعية والاشتراكية والاتحاد السوفيتي عام 1990 بنهاية الحرب الباردة، والهزيمة للتيار القومي في احتلال العراق وتدميره عام 1991، واسقاط نظامه البعثي عام 2003، دفع الأردن في ذلك الوقت ثمن عدم ذهابه الى حفر الباطن، وعدم التجاوب مع المخطط الأميركي الاسرائيلي في ذبح العراق، ففرضوا الحصار علينا، ولم يكن أمامنا خيار سوى الانحناء وقبول مبادرة بوش المعلنة في 7 أذار 1991 نحو عقد مؤتمر مدريد لتسوية الصراع العربي الاسرائيلي في 30/10/1991، والتقط الراحل الحسين تداعيات اللحظة الفارقة المأزومة وكلف طاهر المصري بتشكيل الحكومة في 19 حزيران 1991، وكان المصري “ قَد الحِمل” والتقط مسألة في غاية الأهمية لمواجهة التحديات والحصار وهي تمتين الجبهة الداخلية وتوسيع قاعدة الشراكة فشكل حكومة من خارج المألوف التقليدي من محمد فارس الطراونة، وسليم الزعبي، وممدوح العبادي، وصالح ارشيدات، وعبد الكريم الدغمي، وعلي أبو الراغب، تحملت مسؤولياتها وحظيت بدعم البرلمان النشط الحيوي وان كانت القوى التقليدية وقفت له بالمرصاد وعملت على اسقاطه، ورغم ذلك رفض الاقتراح بحل مجلس النواب لهدف أساس وهو عدم وأد التجربة الأردنية الوليدة باستعادة شعبنا لحقوقه الدستورية، وهكذا سجل طاهر المصري في تلك الأيام العصيبة من الحصارات السياسية والاقتصادية بسبب كارثة وحرب الخليج العربي، مأثرتين : الأولى أنه وسع دائرة المشاركة لحكومة من خارج الصندوق، تتفق مع معطيات استعادة شعبنا لحقوقه الدستورية عام 1989، وتعزيز الخيار الديمقراطي، والثانية أنه رفض أن يُسجل على نفسه حل البرلمان في عهده، وأقنع الراحل الملك حسين بعدم الاقدام على الخطوة، واستقال في شهر تشرين الثاني 1991 بعد مدريد مباشرة، ورحلت حكومته نزولاً عند ضغط القوى التقليدية التي هزمته مقابل أن لا يرحل البرلمان ويبقى هو رئيساً للحكومة.
الرزاز لم يلتقط أهمية اللحظة التاريخية، ولم يعتمد على التحالف غير المعلن بين الاتجاهات الثلاثة التي أسقطت حكومة الملقي وأتت به رئيساً للوزراء : 1- النقابات المهنية 2 - الأحزاب اليسارية والقومية و3- مؤسسات المجتمع المدني فغرق داخل الصندوق ولم يتمكن من استنشاق هواء الدوار الرابع باعتباره محطة أردنية جديدة بامتياز.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية