نعم نمرّ في لحظة فارقة ومركبة، شديدة الحساسية والخطورة في آنٍ معاً.
وإذا جاز لنا الحديث عن أزمة في الديمقراطية الفلسطينية فيجوز لنا من باب أولى الحديث عن هذه الأزمة بالذات باعتبارها إفرازات طبيعية أو تكاد لواقع النظام السياسي في فلسطين ما بعد أوسلو، بكل ما يتصف به هذا النظام من خصوصيات أسست ونمت وطورت وبلورت ما بات يصطلح عليه بأزمة الديمقراطية في الواقع الفلسطيني.
كان يمكن الحديث عن مشكلات ديمقراطية (مجرد مشكلات) لو أن فصائل منظمة التحرير الفلسطينية أجمعت على رؤية مشتركة لأوسلو، وكانت ستظل هذه المشكلات مستوعبة حتى لو غاب هذا الإجماع بما يصل إلى اقصى درجات الخلاف والاختلاف وإلى أعلى مستويات المعارضة والاعتراض.
لكن اللحظة الحاسمة والمفصل الرئيسي في رؤية هذه المشكلة الديمقراطية كان وتمثل في ظهور منظمات الإسلام السياسي وخصوصاً حركة حماس ، وبروز وتطور دورها في الواقع الفلسطيني، ليس من موقع المنافسة في إطار هذا النظام ـ فهذه مسألة مشروعة وطبيعية ـ  وإنما كنهج مناوئ لمشروع الوطنية الفلسطينية، وكممارسة معادية وليس متخاصمة فقط مع المشروع الوطني، وتبحث بكل الوسائل للانقضاض عليه تارة في صورة وهيئة الفعل الموازي وتارة في صورة وهيئة الفعل البديل، وكل ذلك وغالباً بتخطيط خبيث ومبيّت.
شهدتُ شخصياً واستمعت وأصغيت جيداً لثلاثة من قادة الإسلام السياسي في الداخل ـ وكان ذلك في منزلي في عمان ـ قبل الانتخابات التي جرت في الضفة والقطاع عام 2006 بقليل، حيث أكد هؤلاء أن ما يفهمونه من استراتيجية حماس هو أنها (أي حماس) ستعمل كل ما في وسعها من عمليات تفجيرية ضد المدنيين الإسرائيليين ما أمكنها ذلك حتى تقوم إسرائيل وتتولى تدمير السلطة الفلسطينية.
فإن دمرت فهذا «خير على خير» وإن لم يتم تدميرها فستظهر وكأنها خادمة للاحتلال عندما تتصدى لنا ـ والكلام ما زال لحركة حماس كما جاء في أقوال هؤلاء القادة.
من يعتقد عكس ذلك أو خطأ هذا الفهم والتخطيط والممارسة من قبل حركة حماس، عليه فقط أن يعود بالذاكرة إلى تلك الأيام، وما قبلها، وما بعدها، وكيف أن توقيت تلك العمليات كان متناغماً وبصورة جلية مع المحطات الخاصة بتنفيذ بعض مفاصل الاتفاقيات مع الجانب الإسرائيلي.
لم تكن إسرائيل معنية بتنفيذ الاتفاقيات، ولذلك كانت من الزاوية السياسية «سعيدة» بتلك العمليات، ولكنها لم «تنجر» إلى الهجوم المبكر على السلطة، وأعتقد أن حزب العمل في ذلك الوقت لم يكن معنياً ب فتح تلك المعركة على مصراعيها، ولكن شارون أسعف حركة حماس واستجاب بالكامل لخطتها عندما تم اجتياح الضفة بالكامل، وهدم جزءاً كبيراً من مؤسسة السلطة، وحولها إلى كيان ضعيف متهم بالإرهاب الدولي.
دخلت الحالة الفلسطينية في تلك الفترة مرحلة خطيرة من الفلتان الأمني، وجاءت عسكرة الانتفاضة الثانية لتكمل الطوق على الحالة الفلسطينية.
عندما تم إفشال هذه الخطة بالكامل وحيث استطاعت القيادة الفلسطينية أن تُخرج الحالة الفلسطينية من شرنقة «الإرهاب»، وأن تتجاوز حالة الفلتان الأمني بنجاح كبير لحكومة الدكتور سلام فياض الأولى، ثم بدء عملية تنموية كبيرة في الحكومة الثانية، وحظيت الرئاسة الفلسطينية بقدر كبير وتاريخي من المكانة الدولية والدور الإقليمي، جاء الانقلاب كحل أخير لجأت إليه حركة حماس لتدمير النظام السياسي والوطنية الفلسطينية والمشروع الوطني.
وبنجاح الانقلاب تشوه النظام السياسي، ودخل مرحلة نوعية خطرة من التنافس والتصارع والاحتراب السياسي والإعلامي بعد أن تم الاستيلاء على السلطة في القطاع بالحديد والنار.
ومنذ ذلك الوقت وحتى يومنا هذا يستمر تسطيح الأمور، وتستمر عملية مضنية من استهبال الجمهور، والحديث عن أزمة ديمقراطية ومشكلات ديمقراطية بمعزل عن هذه الحقائق الدامغة، إلى درجة ينبري معها أناس يفترض أنهم يعرفون هذه الحقائق جيداً، ويفترض أنهم يلمسونها بأيديهم، لكي يهربوا ويتهربوا عن قصد أحياناً وعن جبن سياسي في أحيان أخرى وعن مقاصد أخرى يفترض بنا أن نترفع عن ذكرها في هذه المرحلة على الأقل.
قطع الرواتب خطأ وخطأ وخطأ بل وربما خطيئة، ولكن الرواتب ليست هي المشكلة أبداً، أبداً، أبداً. 
هي مشكلة وليست المشكلة
هي تفرع له أصل وأساس وجذر عميق.
ودون أن نتحمل مسؤولية وشجاعة التصدي لأصل المشكلة وجذرها، سيظل الحديث عن أزمة الديمقراطية والتردي في الحالة الديمقراطية حديثاً يمكن أن يستهوي البعض، ويمكن أن يروق لبعض آخر، ولكنه في الواقع لا يقدم ولا يتقدم، لأنه يفتقد لدور الشجاعة وشجاعة الدور.
هذا فيما يتعلق باللحظة الفارقة التي نمر بها هذه الأيام. أما عندما يتعلق الأمر بالديمقراطية كحالة ونموذج مفترض أن يكون راسخاً ومستقراً في الحياة السياسية الفلسطينية، وخصوصاً في الحالة التي تقودها منظمة التحرير الفلسطينية فإن الكثير من مشكلات الديمقراطية تعود لضعف حالة المعارضة وهشاشة منظمات المجتمع المدني ووصول التطورات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في هذا الاطار إلى نقطة الانفصال التاريخي، لأن ثقافة ديمقراطية يجب أن تولد وتولّد في سياق فعل اجتماعي وثقافي لم تعد الفصائل قادرة عليه، وهي في الواقع جزء من أزمة الديمقراطية الشاملة وليست المؤهلة لحل هذه الأزمة.
وهذه السمة عامة وشاملة ولكنها تبدو فاقعة في حركة فتح بسبب دورها القيادي ليس إلا. والفوارق بين فتح وبقية الفصائل هي فوارق الدرجة وليس فوارق النوع.
وكل ذلك موضوع حديث آخر وليس موضوع اللحظة السياسية الفارقة التي نعيشها اليوم وسنعيشها لفترة ليست قصيرة قادمة.
 

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد