في إحدى مرات الاعتقال لدى أجهزة أمن السلطة الفلسطينية في النصف الثاني من عقد التسعينات في القرن العشرين الغابر، وبالتحديد في المعتقل الرئيسي لجهاز الأمن الوقائي ب غزة فُتح علىَّ باب الزنزانة لإعطائي وجبة العشاء، ففوجئت بمن يشرف على توزيع الطعام للمعتقلين حيث كان أحد رفاق السجن القُدامى كان قد قضى عشرين عاماً في سجون الاحتلال على مرحلتين، فممرت على كلينا لحظات صمت مشوبة بالوُجُوم والحيرة قطعها صاحبي السجّان قائلاً: "أبو أحمد.. إيش اللي جابك على السجن؟!"، فقلت له "أبو ... اللي جابك على السجن سجّاناً هو اللي جابني على السجن سجيناً"، وتابعت كلامي له "قضيت نصف عُمرك سجيناً، هل ستقضي النصف الآخر سجّاناً؟!". سمعت فيما بعد أنه ترك العمل في السجن بعد أن طلب نقله إلى مكان آخر بعيداً عن السجن وبعيداً عن المعاناة النفسية التي يسببها السجن سواء كان الإنسان سجيناً أو سجاناً.
في دراسة سيكولوجية ترصد هذه المعاناة النفسية لكلٍ من السجين والسجان أُجريت في سبعينات القرن العشرين بجامة ستانفورد الأمريكية شارك فيها سبعين متطوعاً بأجر مُجزي من الشباب الأصحاء جسدياً وعقلياً ونفسياً تم تقسيمهم إلى مجموعتين: سجانين وسجناء، ووضعوا في قبو الجامعة بُني خصيصاً ليكون أشبه بالسجن الحقيقي وأُعطى المتطوعون الذين تقمصوا دور السجانين صلاحيات واسعة لإدارة السجن... لم تكد تمر أيام قليلة على التجربة حتى أُصيب المتطوعون الذين تقمصوا دور السجناء بنوبات اكتئاب قوية ونوبات هستيرية من البكاء والصراخ واضطراب في التفكير والسلوك، وانقسم السجناء إلى قسمين: متمردين ومذعنين. أما النتيجة الأغرب فكانت عند المتطوعين الذين قاموا بدور السجانين حيث تقمصوا أدوارهم بسرعة كبيرة واتبعوا أساليب سادية من التعذيب النفسي والجسدي ضد السجناء فقاموا بتفتيشهم عُراة وعاقبوهم بالحبس الانفرادي والتمارين البدنية القاسية، وأصدروا أوامر بقطع إمدادات الطعام والشراب مدة معينة وحرموهم من دخول الحمام من وقت لآخر... التجربة أُوقفت بعد ستة أيام من بدءها وقبل الوقت المحدد لاكتمالها لمدة اسبوعين، وتعرّض فريق الباحثين المشرفين عليها لانتقادات أخلاقية عميقة.
قد يكون ما يحدث عندنا في فلسطين قريب إلى حدٍ ما من تجربة جامعة ستانفورد بعد إقامة السلطة الفلسطينية بموجب اتفاقية أوسلو التي حوّلت الكتلة الأساسية في الحركة الوطنية الفلسطينية إلى سلطة وطنية تحت الاحتلال وكيان سياسي غير محدد المعالم نصفه يواجه الاحتلال ببناء مؤسسات الدولة الوطنية ونصفه الآخر ينسق أمنياً مع الاحتلال فيقمع أي مقاومة ضد الاحتلال، وفي كل الأحوال سلطة أوجدت أدوات ضمان وجودها ككل الأنظمة العربية التي تعتمد على العسكر والأجهزة الأمنية في حماية منظومتي الفساد والاستبداد برعاية النخبة الحاكمة المرتبطة- بشكل أو بآخر- بالأجنبي المُحتل والمسيطر والمهيمن والحامي... في هذا السياق يأتي قمع أجهزة أمن السلطة في الضفة الغربية للحراك الشعبي والمظاهرات المطالبة برفع الإجراءات العقابية المفروضة على غزة، وربما كان التركيز في القمع على الصحفيين مقصوداً لمنع وصول الصورة إلى الرأي العام خوفاً من الصورة التي يخاف منها كل من لا يستطيع مواجهة الحقيقة الواضحة سواء كان في السلطة أو خارجها وربما ما رافق عملية القمع من عنف وقسوة وتصريحات معادية تهدد كل من يتعاطف مع غزة تشير إلى تلك الميول السادية التي يتشربها من يتقّمص دور السجّان تجاه القسم الآخر من شعبه الذي فُرض عليه دور السجين.
وربما ما حدث في ساحة السرايا بغزة من قمع لمظاهرة تُطالب بإنهاء الانقسام وإزالة العقوبات ووقف الاجراءات العنصرية التي تميز بين أسرى غزة والضفة نظمها حراك الأسرى المُحررين ليس ببعيد من الذي حدث في دوار المنارة ب رام الله من قمع للمظاهرة المُطالبة بنفس المطالب تقريباً رغم الفارق في خلفية السلطتين الحاكمتين في كل رام الله وغزة في الموقف بالنسبة للنهج السياسي وبالنسبة للمقاومة التي لا يمكن أن تكون صك غفران لمن يحملها إلا أن جوهر التعامل الأمني مع المظاهرات متشابه في المضمون والشكل، ورغم نفي حركة حماس تورّط أجهزتها الأمنية في قمع المظاهرة إلا أن مصادر متطابقة مشاركة في الفعالية تؤكد مسؤولية أجهزة أمن سلطة غزة عن قمع المظاهرة التي لها حسابات مختلفة حتى ربما عن حسابات حماس كحركة، فالسلطة والمحافظة عليها توجد وسائلها وأدواتها الخاصة التي قد تناقض في بعض تصرفاتها الأهداف والمصالح الإستراتيجية للشعب الفلسطيني كإنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية.
وأخيراً معذرة إلى إلى الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب إن كنت قد غيّرت بعض الكلمات في قصيدته (في الحانة القديمة) لتناسب واقعنا "فهذا الوطن الممتد من البحر إلى النهر.. من رام الله إلى غزة.. سجون متلاصقة.. سجانٌ يمسك سجان.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية