التهرب الضريبي جريمة وطنية عند الشعوب المتحضرة، ومعابة كبرى لدى الدول المتقدمة، يتم تصنيفها جرمياً بالدرجة الثانية بعد التجسس والخيانة الوطنية نظراً لفداحة أضرارها وتأثيرها على القرار المستقل للدولة الوطنية، فالخدمات التي تقدمها الدولة من أمن وتعليم وعلاج وتأمين معيشي يجب أن تكون مدفوعة الأجرة والثمن ممن؟؟ من جيوب المواطن دافع الضريبة، فالمواطن وحده هو ممول الموازنة عبر الضرائب المجباة، والحصيلة أنها ليس مِنة من الحكومة على المواطن، وليس مكرمة من المواطن للحكومة، بل هي معادلة الحقوق والواجبات، بين الدولة والمواطن، وضعف أي منهما يؤدي إلى الخلل في المعادلة بالاحتجاجات الشعبية بسبب سوء الخدمات الحكومية أو نقصانها، مثلما يؤدي إلى العجز في الموازنة والمديونية عند زيادة المصروفات الحكومية عن مداخليها.


ونحن ورثنا تقاليد التهرب من دفع المستحقات الضريبية المترتبة علينا للدولة ولحكوماتها المتعاقبة منذ عهد جدودنا في الدولة العثمانية الظالمة، ومنذ عهد الآباء في فترة الاستعمار الأجنبي، واستمر تقاليد التهرب من دفع الواجبات باعتبارها ذكاء وفهلوة وأداء وطنياً نظراً لغياب الإدارة الوطنية خلال تلك السنوات المظلمة، وقد تواصلت هذه السياسة الموروثة من العهدين العثماني والاستعماري إلى العهد الوطني والاستقلال، بسبب غياب الديمقراطية والشراكة وتداول السلطة وما أفرزته الإدارة المحلية الوطنية من سياسات تسلطية وتفرد شخصي أو عائلي أو قومي أو ديني أو مذهبي على مقدرات المجتمع والدولة وأدى ذلك إلى غياب العدالة الاجتماعية باتجاهين: أولهما غياب العدالة في توزيع الثروة والخدمات وضيق الشراكة في مؤسسات صنع القرار، وثانيهما غياب العدالة في تحصيل الواجبات المطلوبة من الشرائح الثرية والمتنفذة مقارنة مع ما هو مطلوب من الشرائح الفقيرة والضعيفة المضغوطة، ما أدى إلى الفجوة القائمة بين المتنفذين من جهة، وبين المغيبين والمهمشين من جهة مقابلة.


ولذلك تشترط قيم الدفع الضريبي وتقديم الواجبات بوعي وإيمان ورضا، مقابل تحصيل الحقوق المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والديمقراطية، على قاعدة توازن الحقوق مع الواجبات، فلا يجوز تحصيل الحكومات لمتطلبات الضريبة بأصنافها على المواطن، دون أن تقدم له متطلبات حقوق الأمن والتعليم والعلاج والسكن والتأمينات الاجتماعية للفقراء وكبار السن، هذه مقابل تلك، وغير ذلك الظلم بعينه، وغياب العدالة الفاقعة.


منذ الربيع العربي المهدور وهزيمته لصالح قوى الإسلام السياسي المتطرف، ومؤامرات قوى الشد العكسي المتحفزة، ونحن نرفع شعاري الإصلاح السياسي والإصلاح الاقتصادي معاً، وترابطهما في بلدنا، والتهرب الضريبي جزء من منظومة الإصلاح الاقتصادي بل جوهره، ولكن هذا يتطلب إجراءات فعالة للتصنيف والتدقيق تيمنا للعدالة وتطبيقاتها كي تسهل الأمر بسهولة ورضا على المواطن كي يتخلص من موروث الذكاء والمباهاة من التهرب الضريبي، ويفهم أن ثمن الخدمات المقدمة له تتم من جيبه عبر الضرائب المدفوعة التي يجني ثمارها بخدمات متقدمة تليق باحتياجاته الإنسانية.


ولذلك يرتبط الإصلاح الاقتصادي بالإصلاح السياسي القائم على انتخابات نيابية وبلدية نزيهة وعادلة كي يصل حقاً إلى مؤسسات صنع القرار أشخاص وأفراد وأحزاب معبرين عن إرادة الناخب الأردني، لأن البرلمان هو الشاهد وهو المشرع للقوانين وهو المراقب لأداء الحكومة في كيفية وضع الموازنة المالية كي تصل الخدمات لكل المواطنين بعدالة لأبناء المدن والأرياف والبوادي والمخيمات بإنصاف كامل، وإلا ستبقى لعبة القط والفأر قائمة متواصلة تعكس الفشل في الإصلاح الاقتصادي نظراً وانعكاساً للفشل في الإصلاح السياسي.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد