تشير المعطيات الحالية المتعلقة بالقضية الفلسطينية إلى دخول القضية فى أكثر المراحل تشابكاً وتعقيداً، وأصبح مجرد التفكير فى كيفية تحريكها مسألة شديدة الصعوبة، بل أصبحت هذه القضية فى الفترة الراهنة بمثابة الوعاء الذى يصب فيه نتاج كل الموبقات السياسية التى نشهدها حالياً سواء التشدد والصلف والعنف الإسرائيلي، أم التحيز الأمريكي السافر، أم الضعف العربي، أم الانقسام الفلسطيني، أم محدودية الدور الأوروبي بل وعاء لكل مشكلات المنطقة.
ولاشك أننا عندما نتحدث عن كيفية دفع القضية الفلسطينية إلى الأمام فمن المؤكد أن القاعدة التى تحكمنا فى هذا التوجه تتمثل فى أن أي تحريك للقضية، يجب أن يستند على ما نسميه بوضوح بالـ "END GAME” والذي يعنى باختصار أن أية مفاوضات سياسية يحب أن تؤدى فى النهاية إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، وأن هذه المفاوضات من الضرورى أن تشهد مرونة وتنازلات متفق عليها من كل الأطراف حتى تعيش هذه الدولة الجديدة فى أمن وسلام واستقرار دون أن تهدد أيا من جيرانها بما فيهم إسرائيل.
وبالرغم من هذا التعقيد الذى يحيط بالقضية الفلسطينية، والذي يزداد كلما مر الوقت، فإن هناك بعض المتغيرات المطروحة على الساحة السياسية يجب أن نتعرض لها، وهى فى رأيي لا تحتاج فقط إلى معالجة وتحليل، ولكنها تحتاج أساساً إلى توضيح كيفية التعامل معها، نظراً لأنها قد تحمل قدراً من الأهمية فى المرحلة المقبلة، بغض النظر عن مدى تأثيرها على تحريك حقيقى للقضية من عدمه، ولكن فى كل الأحوال من الضروري ألا نمر عليها مرور الكرام.
وفى هذا الإطار فسوف تكون معالجتنا ورؤيتنا وتوصياتنا والآليات التى نقترحها فى هذا المقال، مركزة على خمسة متغيرات أساسية، أولها صفقة القرن ، وثانيها مسيرات العودة الفلسطينية، وثالثها مشروع المقاومة الفلسطينية، ورابعها الانقسام الفلسطينى ـ الفلسطيني، وخامسها وضعية مدينة القدس.
المتغير الأول : صفقة القرن
تشير كل الدلائل إلى أن الإدارة الأمريكية سوف تطرح فى مرحلة قريبة لاحقة رؤيتها لتسوية القضية الفلسطينية فيما يعرف بـ “صفقة القرن”، ولا يمتلك أحد حتى الآن مبادئ واضحة لهذه الصفقة، إلا أن كل ما ينشر عنها إعلامياً يمكن توصيفه بأنه لا يلبى المطالب الفلسطينية والعربية، وفى رأيى فإن التعامل مع هذه الصفقة يمكن أن يكون فى الإطار المقترح التالى:
** مواصلة الجانبين الفلسطيني والعربي- كلما كان ذلك متاحاً وفى مناسبات سياسية - التأكيد على عدم قبول أية تسوية يطرحها أي طرف لا تتماشى مع المطالب المعروفة، مع مراعاة تجنب الحديث تماماً عن صفقة القرن بعينها.
** عدم رفض الصفقة بصورة مباشرة وتلقائية فى حالة طرحها من جانب واشنطن بصورة رسمية على الأطراف المعنية، ومن بينها بالضرورة السلطة الفلسطينية، التي لا يجب تجاهلها فى هذا الشأن.
** تشكيل لجنة عربية مكونة من الدول التى عرضت عليها الصفقة، ويمكن توسيع اللجنة فى إطار الجامعة العربية، وذلك بهدف دراسة متأنية لجميع بنودها، والرد عليها جماعياً بصورة تفصيلية وموضوعية تماماً من خلال توضيح دقيق للملاحظات العملية والعلمية عليها، تتضمن السلبيات والإيجابيات، وتظهر مدى التعمق فى قراءتها، وليس مجرد الرفض أو القبول المسبق لها (نشير هنا كمثال فقط إلى موقف الحكومة الإسرائيلية من خريطة الطريق التى طرحتها الرباعية الدولية عام 2003 والملاحظات أو التحفظات الأربعة عشر عليها التى أعلنها رئيس الوزراء الأسبق شارون).
** ضرورة أن يكون الإطار الذى يحكم الرد العربي الهادئ والمحكم على الصفقة، هو القبول باستئناف المفاوضات السياسية مع إسرائيل دون أية شروط مسبقة، من أى طرف، على أساس أن كل قضايا الوضع النهائى (القدس – اللاجئون – الأمن – الحدود – المستوطنات – المياه – الأسرى) لابد أن تكون مطروحة على مائدة المفاوضات، ولاشك أن هذا التوجه يعد ضرورياً حتى لا يظهر الأمر وكأن العرب يرفضون السلام مع إسرائيل.
** فى حالة القناعة بأن الصفقة لا تلبى المطالب العربية والفلسطينية، خصوصا إذا تضمنت إسقاط قضيتي القدس واللاجئين، وأكدت يهودية الدولة، فليس من المنطق أن يتم استئناف المفاوضات على أساسها، وهنا يجب التمسك بضرورة تعديلها طبقاً للرؤية العربية حتى تكون مقبولة.
** فى حالة عدم قبول واشنطن بالتعديلات العربية الضرورية لتمرير الصفقة، تصبح كأنها لم تكن، حيث إن انتظار تسوية عادلة قد تأتى بعد سنوات أفضل من القبول حاليا بتسوية تسقط الثوابت الفلسطينية، ويتحمل كل من وافق عليها المسئولية أمام الله وأمام التاريخ , ومن المؤكد أن الزعامات العربية لن تقبل بأقل مما يقبله الفلسطينيون.
المتغير الثانى: مسيرات العودة
تظل مسيرات العودة الفلسطينية التى بدأت منذ 30 مارس الماضى، وما زالت تجري أحداثها كل أسبوع على الحدود الشرقية بين قطاع غزة وإسرائيل، إحدى العلامات المهمة فى توصيل رسالة فلسطينية خالصة برفض استمرار الاحتلال الإسرائيلي، والبحث عن الحق المفقود والمسلوب فى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة.
ولا شك أن هذه المسيرات تنطق بقوة وصلابة الشعب الفلسطينى الذي لم ولن يمت مهما تكالبت عليه المشكلات، وفى رأيى فإن أهم منتجات هذه المسيرات تتمثل فى إعادة التأكيد على أن القضية الفلسطينية ستظل هى القضية العربية المركزية، وأنها أساس استقرار وأمن المنطقة أكثر من أية قضايا أخرى، ولذلك فإن الحفاظ على القضية فى دائرة الضوء الإقليمى والدولى يجب أن تظل حاضرة فى أى تحرك سياسى أو ميدانى.
وفى رأيى أن هذه المسيرات ستكون أكثر تأثيراً وفاعلية وقد تحقق بعض أهدافها إذا ما استمرت فى الإطار التالى:
** أن تكون أحد مكونات منظومة متكاملة للمقاومة الفلسطينية السلمية بحيث لا تبدو معزولة أو كأنها تعزف بشكل منفرد مع كل التقدير والإجلال لجهودها وتضحياتها، ولكننا فى النهاية نبحث عن المردود الإيجابى لها على الأرض.
** ألا تنتمى هذه المسيرات والفاعليات إلى أى فصيل فلسطيني مهما كان، باعتبارها حراكاً شعبياً ينبع من القاعدة الشعبية وليس موجهاً من سلطة سياسية أعلى لتحقيق أهداف محددة.
** أن تبتعد هذه المسيرات عن أية مظاهر عنف أو الاقتراب غير المرشد من خطوط التماس مع الحدود الإسرائيلية، حتى تلقى كل التأييد الدولي، وفى نفس الوقت لا تتعرض لمثل ما تعرضت له من سقوط عشرات الشهداء الأبرار وآلاف المصابين الذين لم يسقطوا فى معركة، ومن المؤكد أن هذه هى مسئولية كل من يتصدى لتنظيم هذا الحراك الشعبى، لاسيما أن التركيز على قضية الاحتلال الإسرائيلى يعد أحد أهم أهداف هذا الحراك.
المتغير الثالث: مشروع المقاومة الفلسطينية
** لا يمكن لأى دولة أو مؤسسة دولية أن تنكر أن للفلسطينيين كل الحق فى اللجوء إلى مبدأ المقاومة الذى كفله لهم القانون الدولي من أجل الحصول على استقلالهم، باعتبارهم شعبا يخضع لسلطة احتلال، ولكن فى نفس الوقت يجب أن يكون استخدام هذا الحق مرتبطاً بطبيعة الوضع الإقليمى والدولى، وخصوصا فى الوقت الذى يحارب فيه العالم ظاهرة الإرهاب، وللأسف لا يفرق بوضوح بين المقاومة والإرهاب، خصوصا إذا أدت المقاومة إلى سقوط ضحايا مدنيين.
** وبالتالى فإن هناك مبدأ أراه شديد الأهمية فى المقاومة لم يستخدمه الفلسطينيون حتى الآن، وقد حان الوقت للبدء فى استخدامه واستثماره، وأعنى به “المقاومة السلمية”، ومن هنا أطالب كل التنظيمات والمؤسسات الفلسطينية بأن تسارع فى بلورة مشروع متكامل للمقاومة السلمية، يتم تفعيله داخلياً على الأرض المحتلة وخارجياً فى الدول التى يوجد بها جاليات فلسطينية كبيرة فى إطار القانون الذى يحكمها، ثم يتم تقييم نتائج هذا التحرك بعد فترة زمنية معقولة، ومن المؤكد أن المجتمع الدولى سوف يتجاوب بصورة ملحوظة مع هذا الحراك مادام بعيداً عن استخدام لغة العنف التى يرفضها العالم.
المتغير الرابع: الانقسام الفلسطينى
تنتابنى فى كثير من الأحيان الدهشة والاستياء فى آن واحد، وأنا أتابع قطار الانقسام الفلسطيني وهو يقترب من عامه الحادى عشر، ولم يبق أمامنا سوى أن نحتفل بذكراه الأليمة، والسؤال هنا: لماذا ينتظر المسئولون الفلسطينيون كل هذا الوقت دون أن يقتحموا ويحطموا هذا الانقسام اللعين مثلما يتم على حدود قطاع غزة مع إسرائيل؟ ثم كيف يقبلون باستمرار الانقسام فى ظل هذه المواقف الأمريكية والإسرائيلية المتحيزة والمتشددة والتجاهل الدولى لقضيتهم.
** إذن فلا يوجد أمام الفلسطينيين سوى إنهاء الانقسام، الذى أصبح من “إحدى الكبائر” ومن ثم أري أولاً حتى تكون البداية صحيحة أن يتم وقف كل مظاهر الدعاية المضادة بين حركتى فتح و حماس ، وأيضاً ضد السلطة الفلسطينية على أن يتبع ذلك التحركات التالية:
** أن تعلن كل من حركتى فتح وحماس خلال الأيام القليلة المقبلة اعتزامهما استئناف جهود إنهاء الانقسام تحت الرعاية المصرية المخلصة التى لا تهدف إلا تحقيق مصلحة الشعب الفلسطينى، وهنا أود الإشادة بالقرار الإنسانى للسيد الرئيس بفتح معبر رفح طوال شهر رمضان .
** أن تعلن حركة حماس بكل وضوح موافقتها على كل ما يمكن أن يؤدى إلى إنهاء الانقسام، وعودة الحكومة الفلسطينية لتكون هى المسيطرة فعلياً على كل مقدرات الأوضاع فى غزة دون استثناء، وهذا هو مفتاح الحل، وإذا كانت هناك بعض الملاحظات لحركة حماس، فإن عليها أن تعيد كل السلطات والمسئوليات للسلطة الفلسطينية تأكيداً لمصداقية الحركة المعلنة، أو حتى من قبيل سد أية ذرائع أو حجج من جانب أى طرف فى مقابل تولى السلطة كل مسئولياتها تجاه القطاع.
** التوافق على موعد محدد لإجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية خلال ستة أشهر أو عام على أقصى تقدير، مع البدء الفعلى فى الإعداد لهذه الانتخابات التى أكد الرئيس أبو مازن أنه سيحترم نتائجها أياً كانت.
المتغير الخامس: وضعية القدس
لاشك أننا لم نتمكن حتى الآن من بلورة رؤية متكاملة لمواجهة قطار التهويد الإسرائيلى للقدس، أو القرارات الأمريكية بنقل السفارة، وما سيستتبعه من دخول دول أخرى، حتى ولو كانت قليلة على نفس خط التوجه الأمريكي.
** ومع كل التقدير للتحرك العربى لإدانة تل أبيب أو واشنطن أو دول أخرى تسير فى ركابهما، فإن الأمر يحتاج إلى انتقال عملي وحقيقي من إطار الحركة السياسية، التى أراها مهمة، ولكنها لا تغير الوضع على الأرض إلى مواقف عملية، يمكن أن تسهم ولو قليلاً فى دعم الموقف الفلسطيني والعربي من قضية القدس.
** وفى هذا المجال أرى ضرورة التفكير السريع فى نقطتين رئيستين كما يلى:
النقطة الأولى: أن تتم بلورة آلية دقيقة تترجم الدعم العربي المادي الذى أقرته القمم العربية مشكورة إلى واقع، بحيث يصل هذا الدعم ليكون عوناً فى دعم صمود سكان القدس الذين لا يمكن لهم أن يتحملوا عبء المواجهة مع إسرائيل وحدهم.
النقطة الثانية: ضرورة السماح للمواطنين من الدول العربية والإسلامية بزيارة القدس فى إطار ضوابط معينة، حتى لا نترك القدس فريسة لاحتلال نهم يلتهم أجزاءها كل يوم، فى حين أن البعض منا لايزال يرفض هذا التوجه تحت دعوى رفض “التطبيع” دون أن يعلم أن القدس أولى القبلتين وثالث الحرمين، والتى يجب أن تكون عاصمة للدولة الفلسطينية، أوشكت على أن تنتزعها الإجراءات الإسرائيلية والقرارات الأمريكية من بين أيدينا كفلسطينيين وعرب ودول إسلامية، وحينئذ نهلل لرفض التطبيع ونبكى على اللبن المسكوب على أعتاب القدس.
اللواء محمد إبراهيم
وكيل المخابرات المصرية الأسبق
عضو المجلس المصري للعلاقات الخارجية
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية