مسيرة العودة الكبرى أول من أمس الرابع عشر من أيار يوم الإعلان عن افتتاح السفارة الأميركية في القدس كانت قوية، واستطاعت أن تهز العالم بأسره، ليس فقط بمشاركة عشرات الآلاف من المواطنين في قطاع غزة في التظاهرات التي عمت المناطق المحاذية للجدار الفاصل بين القطاع ودولة الاحتلال، بل وكذلك لحجم النيران الإسرائيلية غير المسبوق في التعامل مع تظاهرة سلمية بشكل كامل والمجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال ضد المواطنين العزل، حيث سقط أكثر من ستين شهيداً وأكثر من ألفين وسبعمائة جريح، عدد كبير منهم في حالة الخطر، الأمر الذي استدعى صدور إدانات دولية وإقليمية واسعة النطاق وعقد جلسة خاصة لمجلس الأمن وأخرى لمجلس الجامعة العربية.
لم تلحظ الولايات المتحدة ما يجري في الأراضي الفلسطينية من قمع دموي ضد شعب لا حول له ولا قوة سوى التصميم على إيصال رسالة للمجتمع الدولي بطرق سلمية وبدون عنف، بل لقد أدانت المواطنين الفلسطينيين وحركة " حماس " وأكدت على حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها. وأكثر من ذلك تفاخر ممثل الرئيس دونالد ترامب صهره جاريد كوشنير بتقاسم نفس القيم مع إسرائيل وذكر منها احترام حقوق الإنسان. وهنا يتبادر للذهن فوراً العلاقة السيامية بين قوتين محتلتين تدافع فيها الكبرى عن الصغرى التي تتفوق على ما عداها في المنطقة، وكلتاهما تنتهكان القانون الدولي وتمارسان نفس السياسة، فإسرائيل تحتل فلسطين وتقمع الشعب الفلسطيني وترفض الانصياع للقرارات الدولية المتعلقة بحقوق الشعب الفلسطيني وترفض انهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية المحتلة وفقاً للإجماع الدولي الذي كانت الولايات المتحدة جزءاً منه قبل وصول ترامب إلى البيت الأبيض. وأميركا التي تحتل جزءاً من الأراضي السورية بالرغم من معارضة السلطة الشرعية وتقوم بقصف المواقع والأهداف السورية لأسباب لا تسندها القوانين والأنظمة الدولية، وتصر على مخالفة القرارات الدولية بشأن القدس وتفتتح مقر سفارتها في أرض فلسطينية محتلة وليست خارج حدود العام 1967. نعم إنهما تتقاسمان الظلم وسطوة القوة واغتصاب حقوق البشر.
لقد فضح شعب فلسطين منظومة الأخلاق الدولية الهشة والانتقائية وفضح كذب المدعين بالديمقراطية وحقوق الإنسان، فعندما يتعلق الموضوع بإسرائيل نجد عدداً من الدول الغربية تدعمها ظالمة أو مظلومة، ويتحول شعب فلسطين المسالم، الذي ينادي بالإنصاف في إطار العدل النسبي والممكن الذي أقرته الأمم المتحدة على حساب حقوقه، إلى شعب إرهابي كما تقول إسرائيل وأميركا وتصبح إسرائيل النووية التي لم يخدش فيها مواطن نتيجة للتحركات الشعبية الفلسطينية إلى ضحية مسكينة تدافع عن نفسها في وجه البرابرة الظالمين الذين يريدون احتلالها وقتل مواطنيها. وبتنا أمام هذا المنطق المقلوب لا نعرف ماذا نفعل : إذا مارسنا الكفاح المسلح الذي يجيزه القانون الدولي لشعب تحت الاحتلال نكون إرهابيين، وإذا أجمعنا وربما للمرة الأولى في تاريخنا المعاصر على النضال الشعبي السلمي وغير العنيف أيضاً نكون إرهابيين. وبصراحة لم يعد أمامنا لكي نكون مقبولين أميركياً وإسرائيلياً سوى أن نخرج للتظاهر دعماً لنقل السفارة الأميركية من تل أبيب إلى القدس وقبر العملية السياسية بعد شطب قضيتي القدس واللاجئين من المفاوضات التي تريدها واشنطن في إطار صفقة القرن ، ونعلن قبولنا بالاحتلال الإسرائيلي الأبدي، وليس مؤكداً أن يرضوا عنا ويقبلونا في نادي "الدول الديمقراطية الملتزمة بحقوق الإنسان" على غرار إسرائيل وأميركا.
مصيبة شعبنا الكبرى لا تكمن فقط في الظلم الذي يتعرض له المحتل ومن الداعمين له في الحلبة الدولية ومن تراجع الجامعة العربية وخذلان الأنظمة المتقاتلة والممزقة بفعل التدخلات الاستعمارية والولاءات التي لا علاقة لها بمصالح الأمة العربية، وإنما كذلك في المستويات القيادية الفلسطينية التي لا ترق أبداً إلى مستوى نضالاته وتضحياته. فالانقسام يكسر ظهره وعدم وحدة الأدوات السياسية يهدد بضياع الجهود الشعبية وعدم استثمارها سياسياً في تحقيق المصالح الوطنية.
حركة "حماس" القوة الأهم في قطاع غزة والسلطة الفعلية القائمة تقيس الأمور بمنظور بقائها والحفاظ على مصلحة الحركة، وعندما تتعرض لتهديد من الاحتلال، كما حصل في الأيام الأخيرة، تتراجع على غرار تفكيك مخيمات العودة والسعي لإبعاد الناس عن مواقع التماس، والتفكير في استثمار هذا الفعل الشعبي العظيم لصالح صفقة مع الاحتلال عنوانها فك الحصار وضمان سيطرة "حماس". أما القيادة الرسمية فقد اجتمعت بعد المجلس الوطني الإشكالي ولم تقدم ما يشفي غليل الناس، وليس واضحاً بعد كيف ستتصرف مع غزة، هل تبقي العقوبات وتقليص الرواتب وقطعها وربما الذهاب نحو عقوبات جديدة لتفعيل الضغط على "حماس" في غزة، أم أنها ستكتفي بالفترة السابقة وتعيد الرواتب وتهتم باحتياجات المواطنين خصوصاً في هذه الفترة، وتعمد إلى اتخاذ قرارات سياسية بالمستوى المطلوب، علماً بأن الخيارات أمام القيادة محدودة ومقيدة بالواقع المرتبط بالسلطة حتى لو جرى الإعلان عن فك ارتباط أو وقف التنسيق الأمني أو إعادة النظر بالاعتراف بإسرائيل. ولن يكون بمقدورها اتخاذ خطوات جذرية في ظل الانقسام والتشرذم الواقع في الساحة الفلسطينية.
وأخيراً إذا لم توحدنا دماء الشهداء وآلام الجرحى والمصابين وعذابات الشعب المحاصر فلن يوحدنا شيء ولن تكون قياداتنا بمستوى شعبها مطلقاً.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية