واضح أن المسافة بين فريقي الانقسام تجاوزت قدرات المصالحة، لأسباب كثيرة أبرزها انفصال الجغرافيا الذي تعزز بقدرة إسرائيل على اضعاف الطرفين في مواجهتها، وتقوية الصراع بينهما، فضلا عن قدرة الزمن على ترسيم واقع مختلف مُؤسس على مصالح متباينة، وعلاقات مختلفة لكل طرف، بالإضافة الى التدخلات الخارجية المتعددة، ولكل منها حسابات، وإن كان أهمها تغريدات مبعوث الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط، جيسون غرينبلات باللغة العربية الموجه لحركة حماس ليبقى الباب موارب أمام الطرفين في لغة سياسية نشطة منذ صعود ترامب تحت عنوان الأزمة الإنسانية في غزة في مسار جديد استقبلته حركة حماس وتحالفاتها السياسية بمسيرات كسر الحصار فعلاً وحق العودة قولاً.
اتساع الفارق بين مطالب حماس التي تريد الحفاظ على نتائج حكمها في قطاع غزة من مدخل الشراكة الإدارية من أجل تثبيت مكتسبات حكم يقترب من الملكية استقرت واتسعت خلاله أذرعها العسكرية والأمنية والإدارية والاقتصادية القوية والمترابطة في منظومة لا تقدر السلطة الفلسطينية على نزع شوكتها وتطويعها بأي حال من الأحوال دون تدخل خارجي، واعتماد السلطة الفلسطينية على سياسة التضييق الاقتصادي للضغط على حماس أعطى نتائج عكسية لأن الجمهور سيبقى يطالب السلطة التي تمتلك خزائن مال المقاصة والتبرعات الدولية وبعدما عودته على مدار 12 عام بالتكفل بالحد الأدنى للاستقرار، فيما لم تقدم حركة حماس الا منظومة أمنية حققت الأمن بمفهومه العضوي، لذلك جاءت نتائج التضييق سلبية بدرجة أكبر على رصيد السلطة والحكومة ومشروعها السياسي، مع تذمر محدود على حركة حماس.
وهنا يتكون مشهدان، الأول تسعى له حركة حماس من خلال تهدئة طويلة الأمد مع إسرائيل بالتزامن مع انشاء إدارة محلية تتسلم عوائد الضرائب "مقاصة غزة"، واعتراف مصري غير علني يؤمن بأن وجود قوة متعاونة أمنيا في غزة تحمي مصر وسيناء أفضل من مشروع سياسي تحمله منظمة التحرير احتمالات الخسارة فيه أكبر من فرص النجاح، وأيضا يمكن للولايات المتحدة ودول أوربية توفير غطاء واسع لمحاولات الإنعاش الاقتصادي مع رفع تدريجي ومشروط للحصار، إلا أن هذا السيناريو الذي ترغب إسرائيل في تحقيقه وتكريس الانفصال يصطدم بشروطها الأمنية ونزع السلاح والاعتراف بها بطريقة ما، بما يسمح بالتهام الضفة ومواصلة تهويد دولة الاحتلال وتفكيك باقي الوجود الفلسطيني في القدس المحتلة، مقابل تسهيلات اقتصادية بضوابط أمنية تجعل من أي مادة مستوردة ضمن "المواد مزدوجة الاستخدام"، مما يضطر حركة حماس الى اللجوء الى "مغامرة اضطرارية" عبر قبول وكيل محلي للإدارة المحلية وهي تعلم انه سيتمدد على حسابها.
المشهد الثاني يتمثل في محاولات السلطة التضييق السياسي والاقتصادي، وذلك لم يدفع الناس للخروج ضد حركة حماس او دفعها للاستسلام، ولذلك بدأت السلطة تتحول الى مساعي لاستعادة غزة بالتقسيط، في معادلة صعبة لن تترك لها حركة حماس فراغات لأنها تدرك أن السلطة تعمل ضمن سياسة الدمج الصعبة أو الاحلال العسيرة.
في ظل عزم واشنطن على تبني الطرح الإسرائيلي بإقامة "كيان ما " في قطاع غزة لم يقبل به الرئيس محمود عباس حتى الان، ومع ضعف قدرة العرب على رفض هذا المسار، وأمام تفاقم الأزمة وفق تقرير الأمم المتحدة بعدم صلاحية غزة للحياة عام 2020، مع إجراءات التقاعد التي تقطع روابط النفوذ السياسي والاجتماعي للسلطة الوطنية على غزة، كل ذلك يجعل "حلول مؤقتة" أو "حلول إنسانية" مقبولة بما يرضي المخاوف الأمنية الإسرائيلية والمصرية، والسماح بانفراجه اقتصادية محدودة لها رجالها ومؤسساتها الجاهزة، مع فتح الباب أمام عودة العمل داخل إسرائيل لعشرات ألاف العمال وهو صوت يعلو داخل إسرائيل، وربما يتم استقبالهم في مستوطنات غلاف غزة فقط، بانتظار سلام اقتصادي إقليمي تعبر عن مدينة نيوم السعودية.
إجراءات السلطة أعطت نتائج عكسية مع حماس وغزة، وفي ضوء مخاوف حماس من احتواء السلطة لها ونزع ملكها، واقع قد يدفع الطرفان بقصد أو بغيره للهروب نحو انفصال تكون نهايته تقليص دور السلطة في الضفة لصالح الإدارة المدنية، وتعلق حركة حماس بالوهم الاقتصادي ودخول حلبة التنازلات باللكمات لتصبح غزة في نهاية المطاف "كيان اداري مسخ" أو "كيان سياسي بديل لحل الدولتين" يسعى سكانه المنهكين من أجل لقمة العيش مع قليل من الامتيازات.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية