وأنا أحضّر لكتابة هذا المقال كان علي أن أعود لمكتبي باحثاً بين أعداد مجلة "وجهات نظر" القديمة عن حوار نشره الصحافي الكبير محمد حسنين هيكل في العدد الثاني والعشرين عام 2000 دار بينه وبين الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بعد توقيع اتفاق أوسلو بأسابيع نهاية عام 93 وهو نقل لما دار بين الرئيس الفرنسي ومهندس اتفاقيات أوسلو من الجانب الإسرائيلي شمعون بيريس بعد توقيع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي في حديقة البيت الأبيض على اتفاق إعلان المبادئ.
ينقل هيكل ما قاله له الرئيس الفرنسي ميتران مباشرة عن شمعون بيريس
الذي كان حينها وزير خارجية إسرائيل عندما سأله ما الذي تقدمونه لعرفات بعد
هذه المخاطرة التي أقدم عليها؟ ورد بيريس أنهم لم يفكروا بعد، فقد فضلوا
التعامل مع القيادة لأن أي وفد قد يتم تغييره إذا خرج عما رسمته القيادة،
وإذا كانت هذه القيادة هي المفاوض فمعنى ذلك أن الذي أمامنا هو من يملك
القرار وحينئذٍ يكون الباقي علينا، وحين طلب ميتران مزيداً من الشرح حسب
نقل هيكل سمع من بيرس ما معناه "أنهم يحتاجون وقتاً طويلاً كي يأخذوا
الفلسطينيين إلى مائدة المفاوضات ثم يعودون بهم عن قرب المائدة ويطرحون
عليهم صيغاً واسعة مفتوحة للاجتهادات، ثم يأخذونهم معهم إلى تمارين في
الصياغة قد تكون مفيدة في تعليمهم دون أن تكون بالضرورة مؤدية إلى اتفاق
معهم، ثم أنهم سوف يعرضون عليهم وسطاء ووساطات يذهبون بأفكار ومقترحات
ويتركونهم يذهبون إلى واشنطن ونيويورك ويعودون من واشنطن ونيويورك ثم يكون
من هذا الجهد كله أن يؤقلم الطرف الفلسطيني نفسه تدريجياً على كيفية تخفيض
سقف توقعاته.
ويستمر هيكل في القول حين لاحظ الرئيس ميتران أنني أسمعه باستغراب
اختصر الطريق ليقول بسرعة "اعترف لي بيريس صراحة أن علينا جميعاً أن نعطي
الفلسطينيين فرصة لعملية تحضير تؤدي إلى تخفيض سقف توقعاتهم ثم وضعها على
بلاطة، كما يكتب هيكل على لسان ميتران الذي قال له كيف أقولها لك، هم
يريدون عملية تدويخ قبل الدخول في الكلام الجد".
ربما أن هذا هو أخطر حوار استوقفني قبل حوالي عقد ونصف وأكثرها
صراحة حين كنا مشغولين بتفسير الانتفاضة التي كان عمرها أسابيع قليلة، وبعد
شهور من عودة وفود التفاوض من قمة كامب ديفيد والتي لم تكن سوى عملية
تدويخ كبيرة وتدريب للفلسطينيين على تخفيض سقف توقعاتهم وربما تدريب على
الصياغة دون أن تفضي إلى شيء.
من المهم استعادة هذا الحوار ونشره الآن بعد هذه الملهاة التي
يمارسها رئيس الحكومة الإسرائيلية نتنياهو وهو يقوم بعملية التدويخ
المرسومة جيداً بعد مرور كل هذه السنوات الطويلة، والتي احتار الفلسطينيون
في الشكل الذي يقدمون فيه أنفسهم للإسرائيليين كي تستمر المفاوضات، وكي
يتوصلوا معهم إلى تسوية. فنفس الحكومة التي ملأت العالم ضجيجاً بالتصريحات
بأنه لا يمكن صنع السلام مع أبو مازن لأنه لا يمثل كل الفلسطينيين، والآن
لا يمكن التفاوض مع أبو مازن لأنه يمثل كل الفلسطينيين بمن فيهم " حماس "،
ومرة أثناء الانتفاضة كانت الحجة أنه لا يمكن التفاوض مع الفلسطينيين في ظل
العنف، ومرة لا يمكن التفاوض إلا بجمع الأسلحة إذا كنتم تذكرون.
ولا يمكن التفاوض إلا بالاعتراف بالدولة اليهودية، وإذا ما أفلست
الحكومة الإسرائيلية واستجاب الفلسطينيون لكل الشروط تتذرع بقصة التحريض
والمناهج الدراسية، وبالتأكيد لن تعدم المبرر طالما أن قصة التدويخ دون
التوصل إلى حلول هي الإستراتيجية التي اتبعتها إسرائيل منذ أن وقعت اتفاق
أوسلو، ولو كانت نوايا إسرائيل غير ذلك لاعتبرت هذه الحكومة هي فرصة
التسوية لأنها تشكل أوسع تفويض لأبو مازن للتوصل لاتفاق، فهي حكومة تمثل
الضفة و غزة ، منظمة التحرير و"حماس"، ولكن الأمر غير ذلك.
ما يفسر غضب إسرائيل بكل وزرائها بمن فيهم تسيبي ليفني ويائير لابيد
اللذان أظهرا مرونة في الأسابيع الأخيرة، فقد صادقا على معاقبة السلطة في
اجتماع الكابينيت الذي عقد نهاية الأسبوع إلى جانب بينيت وليبرمان، لكن
الحكومة الفلسطينية التي جرى الاتفاق حولها تنزع آخر الذرائع الإسرائيلية
وتزيد من انكشاف إسرائيل أمام العالم وتضع عصا كبيرة في دولاب التدويخ الذي
تريده إسرائيل مستخدمة ما يقع تحت أيديها من مادة للدعاية تبرر فيها تلك
اللعبة التي بدأت منذ أكثر من عقدين.
ولأن اتفاق المصالحة إذا ما نفذ فإنه يقضي على المشروع الإسرائيلي
الأهم في العقد الأخير والذي خططت له إسرائيل بعناية وأشرف على التحقق في
الرسومات الجديدة لخريطة المنطقة في السنوات الأخيرة، وهو مشروع فصل غزة
الذي لم تدرك خطورته حركة حماس حين سيطرت على القطاع، فها هو المشروع
الإسرائيلي ينهار، هذا أيضا يفسر سر الهستيريا التي اجتاحت القيادة
الإسرائيلية، وهي تتلقى صور إعلان اتفاق المصالحة القادمة من غزة، فقد شكلت
"حماس" حكومتها العاشرة عام 2006 ولم نسمع هذا الغضب الصاخب آنذاك بهذا
المستوى الذي نسمعه حالياً، فحينها كانت المفاوضات متوقفة ومشروع فصل غزة
لم يتحقق لكن الآن الأمر مختلف.
وقد كان الكاتب في صحيفة يديعوت أحرونوت ناحوم برنياع أوضح من ذلك
عندما كتب يوم الخميس "الأوروبيون سيذوبون رقة لأن أبو مازن سيحدثهم لا
باسم الضفة وحدها بل باسم فلسطين كلها، وسيسافر في الطريق السريع نحو
الدولة وستتسع المقاطعة على إسرائيل ويتجدد خطر اعتقال ضباط في عواصم
العالم" فإذا ما تمكن الفلسطينيون من تذليل العقبات هذه المرة وشكلوا
حكومتهم الموحدة والتي يرأسها أبو مازن وبخطاب موحد قادر على إقناع العالم
بالسياسة الفلسطينية بعيدا عن الشعارات التي اعتادت أن تتحدث بها حركة حماس
والتي تهدي لإسرائيل مادة للتحريض ضد الفلسطينيين، وإذا ما أقنعت الحركة
بتلك السياسة يمكن استكمال حشر إسرائيل كما يتوقع برنياع والذي يعتبر من
شيوخ الصحافة في إسرائيل.
إسرائيل دولة ماكرة وقد بنت سياستها تجاه الفلسطينيين على نظرية التدويخ التي جسدتها طوال الأعوام الماضية على " نعم ولكن " في مخاطبة العالم وتمكنت من تقديم خطاب مضلل بدا مقنعا للكثيرين مقابل خطاب فلسطيني ساذج يخلو من الدهاء تمكنت خلاله الدولة العبرية من تسجيل نقاط لصالحها أطالت من وقت انكشاف دولة الاحتلال وأطال من معاناة الفلسطينيين، أما آن الأوان للانتقال جميعنا كما الإسرائيليين إلى سياسة ذكية تعتمد على الدهاء في مواجهتها وبنفس أسلوبها في صراعها معنا؟ أما آن الأوان لتقييم التجربة واستخلاص العبر واللعب على حبال السياسة كما محترفي السيرك دون أن نقع ضحية المكر الإسرائيلي والذي استدرجنا كثيرا ووقعنا مرارا في أفخاخه، فقد تشكل حكومة الوحدة فرصة لذلك تمهيدا لوحدة السياسة التي كلفنا غيابها كثيراً، وإذا لم يكن بالإمكان إيجاد حلول هنا على أرض فلسطين فلنذهب لتحقيق انتصارات في عواصم العالم تمهيدا لمحاصرة وعزل دولة الاحتلال، هذا ممكن ويبدأ من قدرة الفلسطينيين على تشكيل الحكومة التي اتفقوا عليها ورسم سياسة أكثر ذكاء. هل تفهم "حماس" ذلك وتكف عن شعاراتها المعلنة والتي سلحت إسرائيل بمادة دسمة للدعاية ضدنا كلنا وضد الحركة ووضعتها على قوائم الإرهاب؟ هناك فرصة لمخاطبة العالم أساسها تفهم "حماس" للعبة الجديدة حتى تترنح إسرائيل لا أن ندوخ نحن أكثر، لقد كتب الصحافي الإسرائيلي شمعون شيفر أن شامير بعد كل فشل محاولة للتسوية كان يتنفس الصعداء قائلا "وأخيرا زال تهديد السلام" هل يفيدنا هذا الدرس بشيء؟
Atallah.akram@hotmail.com
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية