بالعودة إلى الوراء عقوداً قليلة مضت، وبمراجعة الخطاب الدعائي الإسرائيلي الموجه إلى العالم عبر السياسة الخارجية للدولة العبرية، ربما نلحظ هذا المتغير الهائل في هذا الخطاب، إذاك، سادت هذا الخطاب لغة الضعف إلى حد "المسكنة" فقد سوقت سياستها الدعائية على أساس أنها دولة صغيرة قليلة الموارد، فرضت عليها الجغرافيا أن تكون وسط أعداء أقوياء موحدين، هدفهم الوحيد القضاء عليها والفتك بسكانها والقذف بهم في البحر، ورغم أن هذه الدولة أقدمت على حربين في تلك الفترة إحداهما عام 1956 بالتحالف مع فرنسا وبريطانيا ضد مصر، والثانية عام 1967 واحتلالها شبه جزيرة سيناء المصرية، وباقي فلسطين في الضفة الغربية وقطاع غزة ، رغم ذلك، ظلت خلال تلك الفترة، على نفس الخطاب، مبررة هاتين الحربين بالدفاع عن النفس وأن الخوف وحده الدافع إلى هتين الحربين، ولا نتحدث عن حرب 1973، لأن الخطاب الإسرائيلي قد تغير في ثلث الفترة، من الدولة الضعيفة إلى الدولة المتمكنة من وسائل البقاء والقوة عبر اقتصاد متين وقوة مسلحة متطورة، وحياة مرفهة لمواطنيها، فترة السبعينيات شهدت متغيراً واضحاً في الخطاب الدعائي والسياسي الموجه للخارج.


والمفارقة، أن العقود الثلاثة الأخيرة، شهدت تطورات ومتغيرات قلبت ميزان القوى لصالح الدولة العبرية على مختلف الأوجه، العسكرية والسياسية والصناعية والزراعية والتقنية، مقارنة مع المنظومة العربية بأجمعها، المجاورة والبعيدة عن حدود الدولة العبرية على حد سواء، مع ذلك، يمكن ملاحظة الاستخدام المسرف من قبل الآلة الدعائية السياسية الإسرائيلية لمصطلح: "خطر وجودي أو تهديد وجودي" هذا المصطلح لم يكن وارداً أثناء حالة الضعف و"المسكنة" في العقدين الأولين لقيام الدولة، وهنا تكمن المفارقة في أن هذا المصطلح لم يكن في التداول أثناء تسويق ضعف الدولة العبرية لاستجداء الدعم الخارجي، بينما بات توصيفاً دائماً للحالة الإسرائيلية في وقت بات ميزان القوة لصالحها.


إلا أن استخدام هذا المصطلح "خطر وجودي" بشكل مسرف في معظم الأحيان، وبعيداً عن دلالاته في بعض الأحيان، فيستخدم مثلاً في أن الطائرات الورقية الفلسطينية المنطلقة من قطاع غزة، تشكل "خطراً وجودياً" أو أن منظمة "B.D.S"، تعتبر خطراً وجودياً على إسرائيل، في حين ذهب بعض كتّاب الرأي في إسرائيل، الى أن نتنياهو ـ وليس غيره ـ يشكل خطراً وجودياً على الدولة العبرية، بينما اعتبر بعض الباحثين الإسرائيليين أن تزايد أعداد "الحريديم" في الدولة يشكل خطراً وجودياً على هوية الدولة العبرية، مع أن هذا المصطلح استخدم على الدوام باعتبار أن تزايد أعداد العرب في إسرائيل وفي الضفة الغربية وقطاع غزة، هو الذي من شأنه أن يشكل خطراً وجودياً على إسرائيل!


وفي الكثير من الأحيان، وأثناء ممارسة هذه الدعاية السياسية، يتم الخلط بين المصطلحات من دون تحديد دقيق وواضح، فيستخدم التهديد الوجودي بدلاً من الخطر الوجودي، أو خطر أمني أو تهديد للأمن القومي الإسرائيلي، أو خطر استراتيجي، كل هذه المصطلحات، يتم تداولها باعتبارها ذات دلالة واحدة، مع أن الأمر ليس كذلك بالتأكيد!


وبينما تحيي إسرائيل إعلان قيامها "السبعيني" هذه الأيام، تتداول الأوساط البحثية الحالة الإسرائيلية وسط انقسام في التقييم، فالناطق باسم مؤتمر هرتسليا الاستراتيجي، يقول: "إن إسرائيل تعيش عصرها الذهبي في فترة استقرار لم تشهدها منذ 70 عاماً وسط دعم أميركي غير مسبوق، وبحيث لم يعد هناك أي تهديد وجودي على إسرائيل في الوقت الراهن خلافاً للسنوات السابقة، وبحيث أن التقدم في المسيرة السلمية ليس على جدول أعمال الحكومة" وهذا ما يفسر في الحقيقة عدم حاجة إسرائيل إلى عملية سلمية بأي حال، فهي لم تعد بحاجة إلى ذلك! وبينما يؤيد ذلك وزير الحرب الإسرائيلي السابق موشيه يعالون، فإنه يتهم الحكومة بتخويف الجمهور الإسرائيلي بينما ليس هناك أي تهديد وجودي على إسرائيل، فإن عدداً من الساسة والباحثين، يعتبرون إيران، خاصة مع تمدد تأثيرها في سورية، تشكل تهديداً وجودياً حقيقياً على دولة الاحتلال، وفي كل الأحوال فإن هذا المصطلح سيبقى قيد التداول الدعائي والسياسي، الموجه للخارج كما للداخل الإسرائيلي، فحتى مع زوال التهديد الوجودي، تظل علامات القلق والخوف مسيطرة على كيان يعيش على الدم والنار!


Hanihabib272@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد