بعد الانفجار الذي استهدف موكب الدكتور رامي الحمد الله أثناء دخوله إلى قطاع غزة ، وما تبعه من اتهامات متبادلة بين حركتي فتح و حماس ، وما لحقه من تهديدات تتوّعد غزة بالويل والثبور وتُنذر أهلها بالثأر والدمار، صادرة من أولى الأمر والقرار في السلطة، كان من الواضح أننا ننتظر الأسوأ ونترقب الأبشع ، وأوهمنا أنفسنا لبرهةٍ من الزمن أن تلك التهديدات قد ذهبت أدراج الرياح إجلالاً للدم المسفوك من شهداء وجرحى مسيرة العودة على محراب الوطن، وأن تلك النُذُر قد توارت استحياءً من أحلام الشباب والشابات المُحطّمة على أسلاك وبوابات قطاع غزة المُحاصر. ولم تطل تلك الأماني كثيراً حتى أيقظنا كابوس الواقع المر على جملة عقوبات جديدة ضربت عميقاً في قلب الأمل فطالت ما تبقى من رواتب الموظفين العموميين في قطاع غزة، واتضح لنا أن الضوء الباهت الذي لمحناه في نهاية نفق الانقسام لم يكن إلاّ الضوء المُشع من نار الحرب التي تلوح في الأُفق التي قد يلجأ إليها العدو للخلاص من مأزق مسيرة العودة، أو يُهيء للبعض أنها الخلاص من مأزق الحصار والعقوبات.
المنطق الذي تعتمد عليه السلطة في فرض العقوبات على جزء مهم وكبير من الشعب الفلسطيني المُحاصر والصامد والمقاوم في قطاع غزة منطق يعتمد على فرضيات خاطئة ترى في تلك العقوبات وسيلة للضغط على الناس في غزة بتجويعهم وإذلالهم وتدمير مقومات الحياة في حدها الأدنى ليقوموا بدورهم بالضغط على حركة حماس المُمسكة بمقاليد الأمور والسلطة في غزة وصولاً إلى الانفجار في وجهها- وليس في وجه الاحتلال – كي تُسلّم بشروط السلطة كاملة وتمكين حكومة (الوفاق الوطني) في غزة أسوة بالضفة الغربية المُحتلة؛ بدلاً من الحوار مع حماس على أساس تطبيق اتفاقية المصالحة القائمة على الشراكة السياسية والمسؤولية الوطنية، وبدلاً من إجراء حوار وطني شامل بمشاركة الكل الفلسطيني للخروج من مأزقي أوسلو والانقسام وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني الفلسطيني على أساس الثوابت الوطنية ونهج المقاومة الشاملة وتوظيف السلطة لخدمة صمود الشعب فوق أرضه كرافد للمشروع الوطني.
هذا المنطق المعتمد على العقوبات وتخلّي السلطة تدريجياً عن مسؤولياتها عن السكان في قطاع غزة يناقض المسؤولية القانونية التي توّلتها منظمة التحرير الفلسطينية عبر السلطة التي أنشأتها لإدارة شئون السكان بموجب البند السادس من اتفاقية أوسلو بغض النظر عن الموقف السياسي من اتفاقية أوسلو بالرفض أو التأييد وحلت بناءً عليه مكان الإدارة المدنية لسلطة الاحتلال العسكري الإسرائيلي في الضفة والقطاع، وما حدث بعد ذلك من دخول حركة حماس في سلطة لا تعترف بمرجعيتها القانونية وليست جزءاً من مرجعيتها السياسية وبرنامجها السياسي يناقض البرنامج الذي أُقيمت على أساسه السلطة، وما ترتب على ذلك من خلاف ثم انقسام لا يُغير من جوهر الأمر شيئاً، ولا يُعطي المبرر للتخلّي عن المسؤولية القانونية والوطنية عن الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.
ومنطق العقوبات يعتمد على مبدأ غير أخلاقي يرى في الغاية مُبرراً للوسيلة، فعلى فرض أن الغاية فعلاً إنهاء الانقسام وتحقيق الوحدة الوطنية وهي غاية نبيلة بلا شك، فإن الوسيلة إلى تحقيقها عبر العقوبات الجماعية هي وسيلة غير نبيلة بدون شك؛ لما تؤدي إليه من استنزاف طاقة الصمود لدى سكان غزة فوق أرضهم وتُدمر روحهم المعنوية وترسخ مأساتهم وتعمق معاناتهم وتزيدهم فقراً وبؤساً وتعساً. كما أنها تؤدي إلى نتائج مُضرة بالنسيج الوطني الفلسطيني كترسيخ التمييز بين أبناء الشعب الفلسطيني الواحد في كل من الضفة والقطاع، وتحويل الانقسام المؤقت إلى انفصال دائم قد يؤدي إلى تحويلنا إلى جماعات بشرية مُبعثرة وليس شعباً واحداً له قضية وطنية واحدة.
ومع كل ذلك لا يمكن الاستسلام لمنطق اليأس والإحباط المُراد فرضه على الشعب الفلسطيني في كل مكان لا سيما في قطاع غزة المُحاصر والمعاقب خاصة في الوقت الذي يخوض سكانه ملحمة بطولية من خلال فعاليات مسيرة العودة الكبرى المعمّدة بالدم والعرق والدموع، المفعمة بثقافة الحياة والأمل – وليس الموت واليأس – كما يزعم البعض. وما أشبه اليوم بالغد عندما كتب الشاعر المصري الكبير عبدالرحمن الأبنودي عقب النكسة قصيدته (عدّى النهار) في اعتراف صريح بالهزيمة قائلاً في مطلعها:» عدّى النهار.. والمغربية جاية تتخفى ورا ظهر الشجر.. وعشان نتوه في السكة.. شالت من ليالينا القمر...». ولكن مع إصرار قوي على تجاوز الهزيمة وبث الأمل بالنصر قائلا:»... أبداً.. بلدنا للنهار.. بتحب موّال النهار.. لمّا يعّدي في الدروب.. ويغني قدام كل دار».
القصيدة تحوّلت إلى أُغنية لحنها بليغ حمدي وأداها عبد الحليم حافظ، فكان مفعولها كالسحر رفعت معنويات الناس وأعطتهم يقيناً بالنصر القادم، وأملاً في الصباح المُشرق وما أحوج أهل غزة لهذا اليقين والأمل ليمحو عن ليل غزة الحزين سواده ويزيل ظلمته انتظاراً للصباح المشرق حتماً مع طلوع الشمس وقدوم النهار، فغزة ككل فلسطين خلقت للنهار بتحب موّال النهار.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية