سألني أحد الصحافيين الإسبان، بعد مقابلة صحافية حول الأوضاع في قطاع غزة ، إن كان من المناسب أن يضع غزة عنواناً لمادته الصحافية، فأجبته لا، إنها فلسطين، وفي مقابلة هاتفية مع راديو مونتي كارلو، أيضاً، بشأن الأوضاع في غزة، قدّمني المذيع على أنني المحلّل السياسي الغزي فطلبت منه أن يعيد صياغة المقدمة والتعريف، وتقديمي على أنني فلسطيني من غزة، عن غير قصد يتعامل الصحافيون مع الأحداث على أنها في غزة ومعزولة عن بقية الوطن، أو ربما بعضهم جرفته التيارات السياسية الدولية، خصوصاً من قبل الولايات المتحدة، نحو التعامل مع غزة، ككيان منفصل جرياً وراء المخططات الإسرائيلية. غزة لن تكون كياناً منفصلاً، كما تريد إسرائيل، ولن تسمح بأن تعفي الاحتلال من مسؤولياته القانونية، والإنسانية. وغزة ليست قلب فلسطين، فقلبها هناك في القدس ، وحيفا ويافا وتل الربيع. هكذا أرادت إسرائيل، وفيما يراهن الاحتلال، على أن مصلحته الاستراتيجية تقتضي اختصار الوطن الفلسطيني في قطاع غزة، فإنه لا يدرك أنه يصحح عملياً مسار التاريخ، يعيد الأمور إلى أصولها وبداياتها.
الفلسطينيون في غزة، لا يدركون بعد، الأبعاد والنتائج الإيجابية، الهامة، التي ينطوي عليها حراكهم الشعبي السلمي، فهم ينتظرون نتائج ملموسة تغير من واقع حالهم البائس، لكن عليهم أن يدركوا في وقت ما، أن ما يقومون به، ينطوي على تغيرات عميقة في سياق الصراع المحتدم مع الاحتلال ومخططاته التصفوية. لعل واحدا من الدروس أن الفلسطينيين قادرون على قلب الطاولة، وتغيير قواعد اللعبة، وايضاً إرغام المجتمع الدولي والعربي، على إعادة الاهتمام بالقضية الفلسطينية في صدارة الأولويات. يستطيع بعض المسؤولين العرب أن يقدموا صكوكاً بحق الاحتلال في أرضه، لكن هذه الصكوك لن تنفع لا إسرائيل ولا أصحابها، فالشعب الفلسطيني هو القادر على تحديد وضبط السياسات العربية الجامحة والمستعجلة لتطبيع العلاقات مع دولة الاحتلال.
الإبداع الذي يقدمه الفلسطينيون في قطاع غزة، ويلهم بقية التجمعات الفلسطينية، ويستنهض هممها، لا يتوقف عند ما جرى في « يوم الأرض » الجمعة المنصرم، فالجمعة القادم سيكون يوم الإطارات المطاطية، وفي كل جمعة ستتفاجأ إسرائيل، بإبداعات أخرى.
حرق الآلاف من الإطارات المطاطية، من شأنه أن يغطي سماء أراضي 1948، بالسواد، لكي يجربوا الآثار التي ترتبت على إطلاق الاحتلال للغازات، والقذائف المحرّمة دولياً، والتي قتلت الأراضي الزراعية، وضاعفت من معدلات الإصابة بالسرطانات.
إشعال الإطارات المطاطية، ليس استخداماً لأسلحة محرّمة دولياً، ولا يستطيع أحد أن يصنفها في اطار الوسائل الإرهابية، وهي تتم في داخل قطاع غزة، وربما كان ذلك شكلاً من أشكال المقاومة من حيث أنها تشكل عقبة أمام عمليات القنص التي يبادر إليها الجيش الإسرائيلي.
لن تنجح إسرائيل في استدراج الفلسطينيين نحو عسكرة الحراك الشعبي السلمي، حتى لو أن وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان هدد باستخدام قوة مفرطة في مواجهة هذا الحراك. ثمة معادلة يفهمها الفلسطينيون كما يفهمها الاحتلال وهي أن أشكال المقاومة الشعبية السلمية في هذه الظروف، أكثر جدوى وأقل ثمناً من استخدام السلاح. يعبر ليبرمان عن جوهر الحركة الصهيونية ومنتجاتها، بما أنها مشروع استعماري عدواني، لا يجيد إلاّ ارتكاب الجرائم والقوة الغاشمة، والاستهتار بحقوق الناس في الحياة.
إسرائيل التي تدرك مدى أهمية وخطورة الحراك الشعبي، راحت تتصل ببعض رجال الأعمال من قطاع غزة تسألهم عن الثمن الذي يريده سكان القطاع مقابل إنهاء هذا الحراك.
يعلم كل الناس أن الأمم المتحدة لن تنصفهم اليوم، وأن مجلس الأمن الدولي لو اجتمع مئة مرة، لن يخرج عنه أي بيان، أو موقف يعبر عن الحقيقة، أو يدعو للبحث عنها، لكن المجتمع الدولي ليس فقط مجلس الأمن الذي تقف فيه المندوبة الأميركية نيكي هايلي على ركبة ونصف دفاعاً عن إسرائيل. ولكن في كل مرة يجتمع فيها مجلس الأمن أو غيره من المؤسسات الدولية ستجد الولايات المتحدة وإسرائيل نفسيهما وحديتين في مواجهة المجتمع الدولي.
الفرصة متاحة وواسعة، لاستثمار ردود الفعل الدولية والعربية والإقليمية على ما جرى ويجري على الحدود الوهمية مع قطاع غزة، ما يتطلب القيام بتحرك دبلوماسي وسياسي واسع وجدي لا يتوقف عند حدود إصدار البيانات كما حصل في اجتماع المندوبين الدائمين في مجلس الجامعة العربية، التي عقدت مؤخراً اجتماعاً طارئاً لبحث الأوضاع في غزة. والفرصة متاحة وواسعة للتحرك على جبهة المجتمع الدولي المدني الغربي لتوسيع دائرة التعريف والتضامن مع الشعب الفلسطيني وقضيته، وتلك مسؤولية منظمات المجتمع المدني الفلسطيني والعربي الذي لا ينبغي أن يهدر هذه الفرصة. على أن عيون وقلوب الفلسطينيين تتطلع إلى أن ينتج هذا الحراك الشعبي فرصة أخرى جادة هذه المرة، لمعاودة التحرك المثمر على جبهة المصالحة الوطنية واستعادة الوحدة.
يتمنّى الفلسطينيون أن يتمتع ما نشر في صحيفة «الشرق الأوسط» بالمصداقية، فلقد نشرت وسبقتها مواقع التواصل الاجتماعي خبراً عن أن اللواء عباس كامل رئيس جهاز المخابرات المصرية، الذي التقى الرئيس محمود عباس في رام الله ، يحمل رسالتين.
الرسالة الأولى، ضمانة مصر، لأن تسلم حركة حماس قطاع غزة بالكامل، وأن يتم الاتفاق على توفير ضمانة حقيقية لتحييد سلاح المقاومة، وإخضاعه للتصرف الوطني. أما الرسالة الثانية، فتتعلق بإمكانية تعديل « صفقة القرن » بما يرضي التطلعات الفلسطينية. أعتقد أن الرسالة الأولى منطقية والأرجح أن تكون حقيقية، لكن الثانية تثير الكثير من التساؤلات، ذلك أن الولايات المتحدة أوغلت في مصادرة الحقوق الفلسطينية وفي معاداة الشعب الفلسطيني وقيادته، وأنها لا تملك القدرة على التعديل بما يستجيب للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية. والسؤال إن كان ما يجري على جبهة غزة يحقق إنجازات هامة كنا أشرنا لها في مقالتنا السابقة يوم الاثنين الماضي، فماذا لو كان الفلسطينيون موحَّدين؟
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية