أكثر من عشرة أعوام مرت على الانقسام بكل ما حمله من ألم وعذاب ومعاناة، وبكل ما سلب من الناس من أحلام وأمنيات وطمس من عقولهم من ذكريات جميلة ولحظات أثيرة، وبكل ما دمر وشتت وبعثر من قدرات وممكنات. 


هل تذكرون تلك اللحظات السوداء التي تمت خلالها إراقة الدم الفلسطيني واستباحة وحدة الجسد وتمزيق لحمة المؤسسة، وتشتيت أثير الروح، حين غفونا في الليل وقبل أن تطلع الشمس أصبحنا ممزقين منقسمين، وأصبحا شيئين مختلفين، وصارت تنمو أكثر داخلنا نزعات خارج المألوف، وتكبر رغبات أكبر من حدود المعقول، وفيما كنا في أسوأ كوابيسنا نهلوس أنه لن يدوم أياماً أو أشهراً على أكبر تقدير اجتاز عقده الأول وبات يشكل تهديداً لوجودنا. ونحن نتصرف كأن أيدينا في الماء البارد وكأن الأمر لا يعنينا. 


حتى حين نحاول الاقتراب أو نجتاز عتبات الخوف ونخطو نحو الأمام لو قليلاً نقف حائرين أمام جبروت القوة الخفية التي تنجح في إفشال كل شيء. 


يخرج من قلب الظلام من يبرع في تحويل الأنظار نحو تفاصيل مملة قاتلة، كأننا لا ندرك حال الناس أو أين وصلوا أو كيف باتوا يفكرون بعد ما أصابهم خلال كل تلك السنوات العجاف، سنوات لم تتميز بأي شيء إلا أن ثمة طبقة أثرياء جدد وحكام جدد تمتعوا بخيرات البلاد ولم يمسسهم الضر الذي أصاب الناس، لكننا نعيد رفع الشعارات وترديد الترانيم ونحترف الخطابة على المنابر ونهجو خصومنا ونلعنهم ونصورهم كأننا نُخرج فيلماً عن قريش، ونحب أن ننسى كل الواقع. 


ثمة خصومة بين هؤلاء والواقع. الواقع يذكرهم بالفشل. يذكرهم بكل الأخطاء غير الضرورية التي ارتكبوها، يذكرهم بعذابات الناس التي لم يكن حاجة لها، يذكرهم بالعجز الذي أصاب قلوبهم حين فقدت مقدرتها على الحب، على تذكر الأخوة التي داستها بساطير الخلاف، بالعجز عن كبح الحقد وشهوة القتل والتعذيب والتدمير، فشلهم في منع جساس من قتل كليب. الواقع الذي يذكرهم بكل ذلك يريدون أن ينسوه. 


عشرة أعوام من القحط والفقر المتزايد والحزن المتراكم والوهن الذي ينخر عظم الروح. تخيلوا نسبة الفقر وما وصلت إليه. انظروا إلى تزايد المتسولين في الشارع. الأطفال الذين يقفون طوابير على الإشارات الضوئية لمسح زجاج السيارات. النسوة يقمن ببيع حاجيات على المفارق وأمام المخابز والمحال. الفتيان يتسولون الشيكل أو يبيعون السكاكر وأوراق المحارم من أجل الحصول على بضعة شواكل، في طريقة أكثر لطفاً للتسول. وترى الرجل فارع الطول يتقدم نحوك ليصافحك ثم يسألك إن تكرمت عليه بشيكل لأن لا ثمة طعام في بيته. الكثير من الناس تسترها الجدران لا يجدون ما يقتاتون به، لا طعام يبلل ريقهم لأيام، وعائلات كثيرة لا تعرف الدسم لأسابيع. الفقر ليس رجلاً لنقتله، وليس لعنة لنزيلها بالدعاء عن المنابر، بل هو وضع لا يزول إلا بسياسات اقتصادية وتنموية ناجحة ورأس مال يحرك عجلة الاقتصاد، وكل ذلك ليس بحاجة لفقهاء ولا أدعياء خطابة ولا حكومة ربانية بل بحاجة لساسة وخبراء يعرفون كيف يجترحون الصواب من قلب الواقع المأساوي، ويعرفون الله.  


عشرة أعوام من البطالة المتزايدة كأننا في سباق مع الزمن على الانحدار اكثر وأكثر. عشرات آلاف الخريجين يضافون سنوياً إلى طوابير الباحثين عن العمل بلا فائدة ترجى. يعمل الطالب أو الطالبة المستحيل حتى ينجح في الثانوية العامة ثم يعاني والداه الامرّين حتى يتلقى تعليماً جامعياً، على حساب طعامهم ومعيشتهم، يدخرون القرش فوق القرش، ولا إدخار لديهم بل يسلخونه من مصروفهم الأساس الضئيل أصلاً، ثم ينتهي الحال بابنهم أو ابنتهم في طابور الانتظار. انتظار ماذا؟ معجزة إيجاد وظيفة. المعجزة التي لن تصل حتى لو وصل "جودو". 


عشرة أعوام من الأحلام المهشمة والطموحات المذبوحة والأمنيات الممزقة على تلال الشقاق. انظروا إلى حال الشباب حين يفقد الأمل، حين لا يعود يفكر في الغد حين يتوقف ماتور الحلم عن الحلم ولا ينتج طاقة تبحث عن الأفضل. 


حين نفقد الأمل لا يعود للحياة أي معنى. الشباب ليسوا شباباً، والأمل ليس أملاً، والحلم لم يعد يزورنا في النوم، ولا يقف على أطراف رموشنا عند القيلولة. الحياة لا تعود حياة حين لا نفكر في الغد. الغد الذي اغتيل ويغتال كل يوم، يتعثر على عتبات اليوم القاسية. 


عشرة أعوام من القحط والجفاف من الفشل المريع. من النقاش والنقاش والنقاش والخلاف والخلاف والخلاف من البحث غير المجدي وغير الناجح عن الجسر الذي فقدناه فوق الطريق، عن الخطوات التي لا ننجح في خطوها، أو كأن هناك من يصر على عرقلتنا. يا له من بارع ماهر هذا الذي يرسم كل شيء وينجح في كل مرة في جرنا إلى حافة الهاوية، وحين نسقط لا نسمع إلا صراخنا ولا نفعل شيئاً إلا طرد الأعذار عن كاهلنا أو التحديق مذهولين في الماضي ليس حنيناً له بل محاولة للدفاع عن وقوفنا الخاطئ على الضفة الخطأ من النهر. 


تأمل الماضي من أجل استعادة ما مضى لا يشبه إلا تشريح جثة الميت لإحيائه، لكن النظر بعمق في سبيل التعلم وتجاوز الاخطاء وحده يفيد، وليس ثمة حكمة مرغوبة في التنقيب عن الأخطاء لإيجاد تبرير لها، لأن أسهل شيء أن نقدم تبريرات لاخطائنا لكن الأصعب أن نعترف أنها حصلت لأننا لم نستطع أو لم نمتلك الدراية الكافية لمنع وقوعها. الأساس أن لا يحدث كل ذلك، أو كما يقول الوطن ان لا يحدث كل ذلك. 


أما أنه وقد حصل فيجب العمل على تصويب الخطأ. وتصويبه لا يكون بالمكابرة والعناد والإصرار على المواقف وكأنها بقرات مقدسة في فردوس خالد. 


عشرة أعوام من العزلة. ماتت الروح. تكلست داخل قوقعة الذات، وضل الجميع الطريق. عشرة لعلها لا تصبح مائة ولا نندب غزة كما ندب ماركيز "ماكوندو".

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد