على مدار السنوات العشر الماضية بقيت «المصالحة» موضع حوار ونقاش ومداولة وتفاوض، دون أن يتم ولا لمرة واحدة تحديد المفهوم بصورة قاطعة، ودون التوضيح الملموس والمعلل لهذا المفهوم.


وحتى لو أن هذا المفهوم ظل في اطار مفهوم إنهاء الانقسام بما يعيد الوحدة لكافة مؤسسات الدولة (السلطة) فإن هذا الأمر بالذات كان ولا يزال موضع خلاف واختلاف، إلى أن تمّ في القاهرة التوافق على حل حكومة الأمر الواقع وتمكين حكومة التوافق من ممارسة صلاحياتها في القطاع لكي يصار بعد ذلك ـ وليس قبله ـ الى الذهاب باتجاه حل القضايا الأخرى بما في ذلك قضايا الموظفين وغيرها.


حاولت حركة حماس أن تتذاكى على الحكومة، وعلى القيادة الفلسطينية، عندما أعلنت حل اللجنة الإدارية معتبرة ذلك الأمر «قمة» المرونة و»التضحية»، بهدف الوصول إلى إنهاء الانقسام، والمباشرة في عملية متكاملة للشراكة الوطنية!


الضجة الإعلامية التي أثارتها حركة حماس حول «حل» اللجنة الإدارية كانت بالنسبة لأي مراقب منصف وذكي توحي بالمراوغة من أوسع أبوابها.


ماذا يعني حل اللجنة الإدارية في الواقع إذا لم تتمكن الحكومة ليس من استلام مهامها (فهذه بديهية ليست بحاجة إلى جهد خاص من أي نوع) وإنما من ممارسة صلاحياتها بالكامل دون أية عقبات وعراقيل إدارية أو تنظيمية أو أي حدود أو قيود!


وهنا، أيضاً، أثارت حركة حماس ضجة إعلامية أكبر من الأولى لمجرد «زيارة» غزة ، وإجراء «التسليم» والاستلام لبعض الوزراء وليس كلهم، وكان هذا التسليم هو نفسه ممارسة الصلاحيات.


وهنا، أيضاً تنبّه ذلك الجزء من القيادات والنخب السياسية والإعلامية والفكرية لعملية التدليس التي تتعرض لها «المصالحة» وبدا واضحاً أن لا نية لدى حركة حماس من تمكين الحكومة.


وعلى الرغم من كل الضغوط التي مورست على القيادة للتراجع عن الإجراءات التي كانت قد اتخذتها ضد حركة حماس، ومع أن هذه الإجراءات كان تبدو إجراءات غير شعبية وصعبة التفهم نظراً لأنها مسّت إلى هذه الدرجة أو تلك، وبهذا القدر أو ذاك مصالح بعض الفئات الاجتماعية، إلاّ أن الرئيس عن وعي وحنكة رفض الخضوع لهذا «الابتزاز» المبيّت، وأصرّ ومعه الغالبية الساحقة من القيادة والحكومة على أن تتم عملية التمكين بصورة حقيقية وفعالة، وليس بصورة شكلية.


عملت مصر على مدار الساعة لتسريع الخطوات، والوصول إلى نتائج ملموسة لإنهاء الانقسام، لكن «التمكين»، بقي يراوح مكانه ولم تتقدم العملية قيد أنملة، لأن مفهوم التمكين تحول إلى وجهات نظر وليس إلى عقود واتفاقات ملموسة.


لم يقل لنا أحد كيف يمكن لأي سلطة في هذا العالم أن تمارس سلطتها على إقليمها الجغرافي إذا كانت تفتقد لأوراق ممارسة السلطة!


سلطة ليس لها سلطة على الأمن، وليس لها سلطة على القضاء، وليس لها سلطة على الجباية، وليس لها سلطة حقيقية على المعبر، وليس لها أي سلطة على السلاح، يريدون تسويقها علينا باعتبارها سلطة ممكّنة، ولها كامل الصلاحيات، ولم يعد ما يعيق عملها سوى رغبة الحكومة الفلسطينية، فإن هي أرادت فما عليها إلا ان تعيّن الموظفين وتدفع ما عليها من «التزامات». وإن هي لم تفعل فإنها وحدها ودون غيرها تتحمل مسؤولية إعاقة المصالحة!


هذا هو بالضبط ما جرى حتى الآن، وهذا هو بالضبط ما تفهمه حركة حماس من إنهاء الانقسام.


الذي كشف المستور هو عدم التسليم بمفهوم حركة حماس للمصالحة.


فعندما «اكتشفت» حركة حماس أن «ملعوب» إنهاء الانقسام افتضح تماماً، ولم يعد أمامها من حل سوى أن تخلي صلاحياتها عن القطاع، وتسلم كل مؤسسات الحكم إلى الحكومة قامت بالتحريض المباشر، ووصلت الأمور إلى ما سمعناه، وشاهدناه في تلك الجلسة الفضيحة «للمجلس التشريعي» في غزة، حين تمت الدعوة إلى ضرب الحكومة «بالصرامي والأحذية» وإلى زجّ كل القيادة الفلسطينية في سجون حركة حماس.


الواقع أن التفجير الذي دُبّر لرئيس الحكومة ورئيس جهاز المخابرات ومرافقيهم سواءً تم بمعرفة رسمية أو غير رسمية ويمكن أن نقول هنا (كلية أو جزئية) ـ كان بالذات لعبة خلط للأوراق في أخطر مفهوم لهذه اللعبة منذ عشر سنوات، وهي سابقة في منتهى الخطورة للتعامل مع الاختلافات والخلافات في الساحة الوطنية. وربما أن خلط الأوراق قبل المجلس الوطني هو المقصود.


عندما كنا نقول إن معيار إنهاء الانقسام هو التخلي عن حكم حماس لقطاع غزة، ولا يمكن إنهاء الانقسام بدونه، كان البعض يعتبر ذلك انحيازاً سافراً لجهة على حساب جهة أخرى، وعندما كنا نقول إن حركة حماس ليست بوارد التخلي عن حكم قطاع غزة كان البعض يقول إننا كنا نثير الشكوك ونوزع الشؤم بدلاً من إشاعة الأمل.


هنيئاً لأصحاب نظرية الأمل على الإنجازات العظيمة!، وهنيئاً للقائمين على خمسين أو ستين ألف ورشة عمل لإنهاء الانقسام الذين كانوا يتفاخرون بوقوفهم في منتصف الطريق وعلى مسافة واحدة من «الطرفين»! ها قد صدمتنا الأحداث وداهمتنا المواقف الحقيقية المعبرة عن المصالح الحقيقية.


التهنئة الأهم سنقدمها قريباً لمن سيرون أن الحوار مع الإدارة الأميركية ضرب من ضروب «المقاومة»، وهو سياق لمعركة التحرير، حتى لو انفصلت غزة عن الوطن، وحتى لو نجحت خطة ترامب أو صفقته، وانتهت بتصفية القضية الوطنية، لأن المهم (آنذاك) سيكون بقاء حركة حماس في سدة الحكم في القطاع ومن بعد ذلك فليأت الطوفان.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد