254-TRIAL- لو أن أحداً يحاول أن يضع قائمة بمصاعب وجنون العمل السياسي لكان عليه أن يضمنها، حالة العلاقات الفلسطينية الفلسطينية من حيث كونها تتناقض مع أبسط قواعد ومبادئ الكفاح التحرري، الذي يستهدف التخلص من الاستعمار واسترجاع الحقوق. لا يمكن تبرير هذا التدهور في العلاقات الفلسطينية الداخلية، بمقارنتها مع ما يجري في العديد من البلدان العربية، التي تشهد صراعاً دموياً مريراً، وتواجه مخاطر التقسيم والتشرذم، والخضوع لمطامع الدول الاستعمارية وفي مقدمتها إسرائيل. ما تمر به الدول والمجتمعات العربية، يندرج في سياق تغيرات اجتماعية داخلية تستهدف الإطاحة بأنظمة الاستبداد، على الرغم من أن القوى التي تناضل من أجل التغيير، تختلف جذرياً إزاء رؤيتها للمستقبل وطبيعة النظام السياسي الذي يمكن من خلاله، أن تضع الشعوب أقدامها على أول درجات التطور الاجتماعي والاقتصادي، المن فتح على العصر. الواقع التحرري يتخذ في هذه الحالة، طابعاً وقائياً، مع ملاحظة الفارق بين وسائل وأشكال الاستعمار القديم والجديد، ولأن نظرة قوى التغيير لدور ودوافع وأهداف العامل الخارجي، مختلفة ايضاً، وغير واضحة لدى الكثير من هذه القوى، فإنها تنزلق تحت مبررات براغماتية، تحول التعويل على العامل الخارجي، ما يولد عناداً سياسياً، إلى أن يصبح التغيير هو الهدف بغض النظر عن طبيعته. في الحالة الفلسطينية يختلف الوضع، فالاحتلال ليس عالماً افتراضياً، فهو مشخص وقائم على الأرض، وليس هناك أي إمكانية للجدل بشأن طبيعة المعركة من أجل دحره، إن كانت وقائية أم معركة مباشرة. في هذه الحالة، وعلى الرغم من كل ما يمكن أن يقال أو يسجل على النظام السياسي الفلسطيني الأعرج، فإن التناقضات الداخلية تتراجع لتتخذ طابعاً هامشياً، وثانوياً، فيما يفرض الواقع اليومي للسياسة الفلسطينية، التناقض مع الاحتلال باعتباره التناقض الرئيسي اليومي والمباشر. الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، ليس واقعاً مستقراً، فلا هو يسلم للفلسطينيين بأبسط الحقوق، ولا الفلسطينيون مستعدون لقبول واقع الاحتلال. الاحتلال الإسرائيلي يسعى لنسف الحقوق الفلسطينية، ويعمل ليل نهار على شطب الشعب الفلسطيني من الخارطة، وهو ما عبر عنه أكثر من مسؤول فلسطيني بما في ذلك الرئيس محمود عباس الذي وصف ما نفذته إسرائيل بحق سكان قطاع غزة بالإبادة. إذا حاولنا أن نقترب أكثر وبعمق فيما تشهده مدينة القدس المحتلة، فإننا سنخرج وبسرعة إلى استنتاج بأن إسرائيل تسعى بقوة لشطب الوجود الفلسطيني، ومعالم هذا الوجود، وهذه هي لا غيرها الترجمة الحقيقية، لملف تهويد القدس، الذي يشكل عنوان السياسة الإسرائيلية في عاصمة دولة فلسطين المأمولة. إذن، إسرائيل تستهدف الشعب والقضية والأرض والحقوق وبضمن ذلك تستهدف الحركة الوطنية والإسلامية، التي تناضل من أجل حقوق الشعب. فتح مستهدفة كما حماس ، كما كل فصائل العمل الوطني الفلسطيني، ما يفترض أن يعطي الجميع الأولوية لدحر المخططات الإسرائيلية، ولو من باب الدفاع عن النفس. عجيب وغريب حد الفجيعة، أن يستمر هذا الصراع ويتصاعد بين الحركتين الكبيرتين، وأن يخشى كل منهما الآخر، أحياناً أكثر مما يخشى المحتل الإسرائيلي. التصريحات التي تصدر مؤخراً على الجانبين، من قبل فتح وحماس، تجاوزت حدود أدب التعامل السياسي، وتشكل انقلاباً جذرياً على لغة، واتفاقيات المصالحة. المصالحة اليوم بلا أفق، وبلا أمل قريب، ما يعني أن الاتفاقيات التي تم التوصل إليها لم تكن ولا هي بالطبع صالحة لتحقيق الهدف. ويعني تدهور العلاقات الفلسطينية الداخلية، في هذه الظروف، التي تتصاعد خلالها العدوانية الإسرائيلية، أن طاقة المجابهة الفلسطينية، ستكون ضعيفة، ومشتتة. الحديث عن طاقة المجابهة الفلسطينية، يعني الحديث عن انتفاضة شعبية عارمة، يعني الحديث عن تصعيد كل أشكال المقاومة الشعبية والسياسية، ويعني تكامل الأدوار، بدلاً من تعارضها. في الواقع، فإن إسرائيل لا تكف عن العمل كل لحظة لإنضاج الظروف الموضوعية لانتفاضة شعبية شاملة، لأن الاحتلال يستهدف الوجود الفلسطيني في القدس، كل الوجود الفلسطيني. الإجراءات العقابية التي تقررها وتعلنها وتمارسها الحكومة الإسرائيلية، لا تستثني فلسطينياً مقدسياً، حتى وهو جالس في بيته، ولذلك فإن الشعب يتجاوز مرة أخرى قياداته وفصائله. حين يسارع الجميع لوصف عمليات المقاومة التي يقوم بها الشباب في القدس، باعتبارها أعمالاً فردية، فإن هذا يقدم دليلاً على تخلف وعجز القيادات الفصائلية، ولكنه من ناحية أخرى يدلل على مدى خطورة الأوضاع في القدس. إذا كان هذا هو الواقع، على أرض الصراع، فإن الأيام القادمة تحمل للفلسطينيين المزيد من المخاطر، والمزيد من العدوانات الإسرائيلية التي قد تعود إلى قطاع غزة مجدداً، للتغطية على ما يجري في القدس والضفة الغربية، كما حصل قبل العدوان الأخير على القطاع. المقصلة الإسرائيلية على رقاب الجميع، ولذلك بات على الجميع أن يتوقف عن هذه المهزلة، والعودة سريعاً إلى حوار عميق مختلف.

210

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد