في العام 1955، تقدم العالم بخطة من أجل العمل على توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء بهدف العمل على انهاء أزمتهم وحل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي، ولكن لم يكتب لتلك الخطة النجاح لرفض جمال عبد الناصر لها، وقد قامت التيارات الإسلامية واليسار الفلسطيني بزعامة معين بسيسو بمظاهرات في فلسطين ضدها.

ويروي الطيب عبد الرحيم أحد قيادات حركة فتح، أنه في نهايات تسعينيات القرن الماضي زار مبعوث أمريكي الرئيس الراحل ياسر عرفات وكان معه تصور من اجل إعطاء الفلسطينيين دولة في قطاع غزة وحل لمشكلة اللاجئين، وقد رفضها الرئيس في ذلك الوقت.

وقد كتب كثير من قيادات وجنرالات الجيش الإسرائيلي التسعينيات من أواخر القرن الماضي عن شكل الحل الذي يمكن أن يحدث مع الفلسطينيين.

ومنذ فوز دونالد ترامب ووصول الجمهوريين إلى سدة الحكم في أمريكا عام 2017م، أعطى ترامب صهره جاريد كوشنير يهودي الديانة وصاحب العلاقة القوية باللوبي الصهيوني في أمريكا، صلاحيات واسعة فيما يتعلق بإيجاد حل للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وقد استثمره اللوبي الصهيوني بشكل جيد وتم بلورة الكثير من الأفكار القديمة والجديدة وإخراجها بشكل جديد والذي أصبح يعرف بـ " صفقة القرن " ولقد بات هذا المصطلح من أكثر المصطلحات السياسية تداولا في الشرق الأوسط بل والأكثر تداولا بين السياسيين في العالم.

وتحرك اللوبي الصهيوني وترامب للتسويق لهذه الصفقة داخلياً وخارجيا، والعمل على إيجاد بيئة دولية واقتصادية داعمة لها.

وبشكل عام ورغم كثرة الحديث عن شكل الصفقة إلا انها غير واضحة وغير مصاغة بشكلها النهائي، ومازالت حبيسة الادراج.

إلا أن المتابع لمجريات الاحداث في المنطقة عموماً يعلم جيدا أن هناك إعادة تقسيم لها، وصفقة القرن لا تتعلق بفلسطين وحدها بل تشمل المنطقة برمتها ولكن صلب الصفقة وثقلها هو في إيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

ولعل حالة النزاعات والحروب وسياسات التجويع والحصار التي تفرض على شعوب المنطقة، ليست سياسات عشوائية أو وليدة التفاعل التلقائي بين أطراف النزاع، بل هي سياسات مبرمجة تتحرك وفقها أطراف الشر لتحقيق اهداف مرسومة ولعل أبرزها:

إنهاك شعوب المنطقة واستنزاف مقدراتها والعمل على تشتيتها.

العمل على تصفية أي مكون سياسي يمكن ان ينهض بالمنطقة، أو ان يقف في وجه مخططاتهم.

تركيع الشعوب بكل اشكال وطرق الإرهاب العسكري والسياسي والاقتصادي، وتمرير أي إعادة تشكيل قد تحدث في المنطقة " سايكس بيكو (2)"، حتى لو كان ذلك على حساب الأوطان أو المعتقدات التي تؤمن بها.

أما فيما يتعلق بدوافع كل من يتحرك من اجل أن ترى هذه الصفقة النور فيمكن حصرها ضمن ثلاث نقاط أساسية:

العمل على شرعنه هذا السرطان الذي يقبع في قلب الامة (إسرائيل)، وذلك لأهداف سياسية واجتماعية وعسكرية وايدلوجية.

تثبيت أنظمة حكم، وبناء أنظمة جديدة في المنطقة.

العمل على نهب الموارد والثروات فالبعد الاقتصادي حاضر وبقوة في هذه الصفقة فالعالم يعيش بحالة تسابق قد يوصف بالجنون نحو الحصول على الموارد، وزيادة مناطق النفوذ والوصاية.

ودعونا نركز في الحديث على الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بمعزل عن الاحداث الكثيرة في المنطقة رغم حالة التداخل، فالمعلن أن هناك ما يعرف بدولة على غزة تضم القطاع بشكله الحالي بالإضافة إلى اقتطاع 720كم من أرض سيناء وأجزاء من الضفة الغربية منطقة "أ" و "ب "عاصمتها أبو ديس، بالمقابل سيكون هناك دولة إسرائيلية بحدودها الحالية بالإضافة إلى غالبية مناطق "ج" في الضفة الغربية وعاصمتها مدينة القدس ، وسنتحدث بشيء من الاختصار عما ستحصل عليه الأطراف الأساسية في هذه الصفقة والمواقف التي يمكن ان تتخذها:

مصر

رغم أن مصر ستمنح غزة جزءا من أرضها ولكن ذلك سيعود على مصر بأمور إيجابية أخرى، فمصر مقطوعة جغرافيا من منطقة الشرق الأوسط، لذلك ستسمح تل ابيب بشق نفق يربط بين مصر والأردن يخضع للسيادة المصرية، وانشاء مشروع سكة الحديد التاريخية التي تربط دول المنطقة مع بعضها البعض، بالإضافة لفوائد اقتصادية وبرامج تطويرية يمكن أن تعالج أزمة المياه التي تمر بها مصر وأزمة الكهرباء من خلال الحصول على القدرة النووية (لأغراض سلمية)، وتحسين ملحقات اتفاقية السلام الموقعة مع إسرائيل.

ولكن من المتوقع أن تكون هناك أجواء رافضة لهكذا قرارات بين أوساط الشعب المصري ومؤسساته واعتقد أن القيادة المصرية ستعمل على امتصاص الصفقة، إما من خلال تأجير هذه الأرض التي ستمنح للفلسطيني او ستتحول لمنطقة ينتفع منها الجميع (منطقة نفعية) أو اشبه بالمناطق الصناعية ولكن ستبقى للمصرين ودون التنازل عنها بشكل مباشر، وستعمل على التدرج في عملية طرحها للشارع المصري، ويمكن أن ترفض الخطوة بكل محتوياتها واشكالها، ولكن الملاحظ بأن مصر ستقبل الطرح الإقليمي مع بعض التحسينات، مقابل سلسلة من المميزات الاقتصادية التي ستحصل عليها.

الأردن

الامر أكثر صعوبة هناك إذا ما تم الحديث عن توطين اللاجئين لان هكذا خطوات قد تغير من الشكل الديموغرافي نوعا ما، لان نسبة الفلسطينيين تشكل الأغلبية في المجتمع الأردني صحيح أن جزء كبير منهم يمتلك مميزات المواطن الأردني بالأخص اهل الضفة الغربية ولكن هناك ما يقارب 90ألف غزي سيتم منحه الجواز الاردني، بالمقابل يوجد أيضاً مميزات اقتصادية ستحصل عليها الأردن بأكثر من جانب ولكن يوجد أيضا مشاكل أخرى خاصة في موضع المياه، ولكن باعتقادي لن تتمكن الأردن من الوقوف امام هذه الصفقة وذلك لقوة الأطراف التي تتحرك من اجل تمريرها، وستعمل على تحسينها بما يخدم مصالحا قدر المستطاع.

الفلسطينيين

صحيح أن هناك بعض المشاريع الاقتصادية الإنعاشية وبعض المميزات مثل فك الحصار والحصول على ميناء ومطار وحرية في التحرك خاصة في قطاع غزة، إلا اننا الخاسر الأكبر في هذه الصفقة نتيجة ضياع قضيتنا بشكل شبة كامل إذا ما طبقت وأصبحت امرا واقعا، وسنحدث عن مكونين أساسيين:

على مستوى السلطة وحركة فتح هناك حالة من الرفض بل المواجهة في بعض المحطات مع بعض الأطراف الدولية على المستوى العلني، لكن لو نظرنا إلى سياسات السلطة الفلسطينية وإجراءاتها على الأرض سواءً كان ذلك بقصد او بغير قصد من إجراءات عقابية ضد القطاع، قد يفهمها البعض انه بداية تقليص عمل السلطة وانسحابها التدريجي من القطاع ضمن سلسلة خطوات صفقة القرن والتمهيد لما يعرف بدولة غزة، لذلك يجب على حركة فتح بقياداتها الوطنية وكوادرها الضغط بقوة داخل الحركة وخارجها، نحو إنجاز الوحدة الوطنية والعمل على الخروج برؤية وطنية جامعة تشمل الجميع ، لمواجهة هذه الصفقة ووقف هكذا خطوات والعمل على تفعيل دور كل الوزارات والمؤسسات الرسمية في القطاع.

وأما على صعيد حركة حماس فهي تعتبر حجر العثرة الثقيل لان الصفقة تتكلم باختصار عن دولة في غزة وحماس تعتبر مكون أساسي بل الحاكم فعليا في القطاع لذلك يجب التعامل مع حماس من قبل الجميع بما فيهم إسرائيل لأمرين مهمين:

انه من الصعب إزالة حماس، لتجذرها الجماهيري وتغلغلها بكل مكونات المجتمع.

تفكيك قاعدة حماس المؤدلجة دينياً والمكونة من عشرات الآلاف، سينتج عشرات المجموعات المسلحة والتي سيكون من المستحيل التعامل معها أو السيطرة عليها.

لذلك يعمل العالم من خلال بعض أطراف المنطقة على تليين الحركة سياسياً، هذا التليين سيكون مصحوب بعملية تسخين عالية، فالمعروف ان الحديد إذا اردت ان تغير من شكله يجب عليك اولا صهره وإعادة تشكيله، واعتقد ان التسخين على الحركة مازال مستمرا وستكون ذروته من خلال عملية عسكرية كبيرة سيهدفون من ورائها إلى حل موضوع الأسرى المفقودين إبان حرب 2014م، وإفقاد الجناح العسكري لحماس غالبية قوته ، فحماس التي يرغب العالم التواصل معها يريدها حركة سياسية لا قوة عسكرية لها مقلمة المخالب، كما حدث لحركة فتح من فكفكة لجناحها العسكري وافقاده وحرمانه من الأسلحة الثقيلة خلال الفترات السابقة.

ولكن لن تمر هذه الصفقة باعتقادي دون ان تواجه بشكل عنيف من مكونات شعبنا المختلفة، والذي سيعمل على إفشالها بكل الطرق والوسائل.

إسرائيل

هي الرابح الأكبر من هذه الصفقة لعدة أسباب أبرزها حالة الاستقرار التي ستحصل عليها والأراضي الجديدة التي سوف تضيفها لها، وحالة التطبيع مع الدول العربية والإسلامية وحجم التبادل التجاري مع المنطقة، ووصلها لشرق الوطن العربي مع غربه.

ولكن يجب الاشارة لإمكانية ظهور بعض الاعبين الدوليين في الطريق مثل الروس، ويعملوا على المحاولة في تغير المعادلة وشكل الصفقة من خلال توسيع وتثبيت نفوذهم ودورهم في هذه الخارطة الجديدة، فالروس يرو في أنفسهم لاعب رئيسي في المنطقة يصعب استثناءه أو تجاوزه بل القطب الثاني للعالم، والمتابع لخطاب بوتين الأخير يعي جيدا ذلك، وحجم الرسائل وقوتها التي أرسلت للأمريكان والغرب عموما ولا يقتصر الامر على الروس وإنما على كل الدول العظمى في العالم.

وباعتقادي لن تطبق صفقة القرن بحذافيرها أو دفعة واحدة، ولن تعترف إسرائيل بدولة فلسطينية وستعمل على نقل ثقل القرار الفلسطيني إلى غزة، ومنح القطاع ميناء خاص به وفتح برامج اقتصادية كبيرة هناك والعمل على اختزال الدولة الفلسطينية في القطاع، وستستفيد من اعلان القدس عاصمة لها وستعمل على زيادة الاستيطان في الضفة الغربية من اجل تهويدها بشكل شبه كامل.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد