منذ تأسيس التنظيم الدولي مع بدايات القرن الماضي كانت الولايات المتحدة الاميركية ـ ومازالت ـ لاعباً فاعلاً فيه ترجمة لثقلها الذي بدأ بالتنامي مع نهاية القرن التاسع عشر في المشهد الكوني. إنها اللحظة التي تخلت فيها واشنطن عن مبدأ «مونرو» وبدأت بالتدخل في قضايا الكوكب وفي الاشتباك مع السياسات الدولية. كانت تلك لحظات فارقة ألقت بظلالها على تطور الاحداث في الحربين العالميتين الأولى والثانية. ولم يكن يمكن تخيل تحرر عواصم اوروبا الكبرى خاصة باريس وروما من الاحتلال النازي لولا التدخل الامريكي.

وربما يبدو التذكير بمثل هذا اللحظات التاريخية هاماً لفهم ميكانيزمات الاشتباك الايجابي بين واشنطن والقارة العجوز. وما تلا ذلك من خطة مارشال لانقاذ اوروبا ودفع البيت الأبيض نحو مشروع التكامل الاوروبي في بدايات تشكله وفق مقترحات شومان، حيث كانت الغاية الكبرى منه منع انزلاق الدول المنتجة للحديد والصلب إلى صراع مرة أخرى وبالتالي تجنب حروب جديدة ستجد واشنطن نفسها مضطرة لدخولها، بجانب توحيد الجهود الاوروبية لمواجهة المخاطر القادمة من المعسكر الشرقي بقيادة موسكو. أيضاً يبدو هذا التذكير هاماً لقراءة مدى ما يمكن ان يذهب إليه أي شقاق بين الحلفاء على ضفتي الأطلسي.  وهو شقاق يظهر إلى السطح في بعض قضايا السياسة الخارجية وبعض القضايا الحيوية في السياسات الدولية خاصة في قطاع التجارة. وحتى بعد انهيار جدار برلين وبقاء مسار الجدار  «وتشك بوينت تشارلي» كتذكار من فترة سابقة، فإن سياسات واشنطن وعلاقتها باللاعبين والفاعلين في اوروبا لم تتراجع خاصة بعد إعادة هيكلة تطلعات الناتو بعد قمة براغ الشهيرة. 


مرمى كل ذلك هو النظرة ليس إلى مكانة واشنطن في التنظيم الدولي ولكن في تشابك هذه المكانة مع اللاعبين الآخرين بعيداً عن التوتر الذي قد يصيب هذه العلاقة بين فترة وأخرى. وهذا يتطلب عمقاً اكبر في فهم تشابكات السياسة الدولية من اجل المقدرة على النفاذ إلى بعض بواطنها بغية التأثير على مخرجاتها خاصة حين يتعلق الأمر بالقضايا الحساسة. مثلاً رغم كل مواقف أوروبا التي بدأت تتقدم تجاه القضية الفلسطينية منذ إعلان البندقية وربما يمكن العودة بذلك إلى الاستدارة في موقف الرئيس ديغول بعد عدوان حزيران، إلا ان اوروبا مازلت تنظر إلى إسرائيل ضمن مخرجات ونتائج الحرب العالمية وما لحق باليهود على يد النازيين. ثمة قيود كثيرة تفرض على تطورات المواقف الدولية، وهي قيود ليست بالعصية على  التفكيك ولكن تفكيكها والتغلب عليها وتجاوزها كل ذلك يتطلب فهماً لها ولمفاعيلها في الوعي وترجمتها في السياسة. وحتى في الدول الأكثر تحرراً من إرث الذنب فإن الوضع لم يكن اكثر سهولة، وهذا قد يكون اكثر وضوحاً في الدول الاقتصادية الصاعدة التي بدأت علاقاتها مع إسرائيل تأخذاً أبعاداً جديدة مثل الصين والهند، وربما أن ثمار التحولات في العلاقات الاقتصادية لم يثمر سياسياً بالشكل المتوقع إسرائيلياً، لكنه غير مستبعد.


خلاصة ذلك أن فهم مفاعيل السياسة الدولية يبدو هاماً في فهم ما يجري حولنا. وبالعودة لمكانة الولايات المتحدة الامريكية في التنظيم الدولي، فإنه قد يبدو متعذراً فهم السياسة في القرن الماضي ومطالع القرن الحالي دون فهم هذا الدور بل والإنطلاق منه. فالولايات المتحدة كما بريطانيا في القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، وكما تركيا في القرون السادس عشر والسابع عشر، وكما العرب في القرون التي سبقت ذلك وروما وأثينا والكنعانيين والفراعنة قبل ذلك، هي صاحبة الحضور الأثير في فعل السياسة. وهذه ليست مجرد حكمة يرفعها التاريخ امام وجوهنا، بل هي بداية هامة للإنطلاق من اجل فهم اعمق للواقع. 


وقد تبدو علاقة واشنطن بالامم المتحدة أكثر التباساً، لكن لا يمكن فهمها دون فهم كل السابق. فالولايات المتحدة التي كان لنقاط ولسون الأربعة عشر الفضل في تشكيل المنظمة الدولية بصيغتها السابقة، لم تلتزم بروح هذه النقاط حيث رفض الكونغرس الأمريكي إنضمام واشنطن للمنظمة(عصبة الامم)  التي تأسست وفق روح مباديء ونقاط رئيسها. ويمكن النظر للكثير من الشواهد حول محاولات واشنطن الدائمة التحلل من التزاماتها الدولية تجاه المنظمة الدولية وربما كان آخرها مثلاً انسحاب واشنطن عام 2017 من اتفاقية الهجرة التي أقرتها المنظمة الدولية  بحجج كثيرة قدمتها ممثلتها هيلي، والتي لا تبدو إلا رواية امريكية حول كيفية إدارة العالم.


وهنا يكمن مربط الفرس، إذ إن واشنطن لديها رؤيتها لكيفية إدارة العالم. صحيح ان هذه الرؤية باتت اكثر حدة وبات لدى واشنطن نزوع واضح لفرضها بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وعدم فعالية النظام متعدد الأقطاب لكن هذه النزعة كانت موجودة منذ تحلل واشنطن من مبدأ مونرو. وبالعودة إلى النقطة السابقة حول عدم فعالية النظام متعدد الأقطاب، فإن ترجمة ذلك تبدو جلية في تعزز الصقورية العنيفة في السياسة الاميركية والتي كانت ذروتها «الترامبية» الجديدة التي هي شكل أرثودكسي من المحافظين الجدد. وهي طفرة تبدو طبيعية في النظر إلى نسق تطور السياسات الامريكية دولياً، يصعب القول إنه منطقي، لكن نظرة واقعية للسياسة تقول إن هذا جزء من الوعي التاريخي للمنتصرين للأسف ما لم يجابهوا بقوة تستطيع تقويض قوتهم او تحويلها إلى قوة غير ناجعة. وهذا ما تفتقد إليه موسكو وبكين وعواصم اوروبا، وهو ما يشكل فشل إعادة ترتيب التنظيم الدولي الذي ناقشته في المقالة السابقة وتوسيع عضوية مجلس الامن الدولي. بل إن النقيض هو ما تحاول إدارة ترامب عمله من جهة إعادة ترتيب البيت الدولي وفق رؤيتها الخاصة التي تعني تخفيف مسؤوليات المجتمع الدولي وإيلاء المزيد من الرخص للقوى الكبرى للمشاركة في صياغة مستقبل الدولة، استكمالاً للنقاشات السابقة التي تبلورت بعد إنهيار جدار برلين. 


السؤال أين نحن من كل ذلك؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد