تشكل التنظيم الدولي المعاصر نتيجة توازن القوة الذي نجم عن الحرب العالمية الثانية. إنه تنظيم المنتصرين الذي لم يكن مهيئاً للتغيرات المستقبلية التي ستضرب بعالم الدول، العالم القائم على مجتمع الدول الاعضاء المستقلة الذي تاسست نويات وجوده بعد اتفاقية وستفيليا. الدولة كوحدة أساسية في التنظيم الدولي لم تذهب ولم تختف رغم كل الاهتزازات والانكفاءات التي مرت بها (تراجع مفهوم السيادة في ظل العولمة، حقيقة وجود الدول الآيلة للسقوط) حتى ظهور التجمعات الإقليمية الكبرى الناجحة خاصة الإتحاد الاوروبي دلل على أن الدولة الوطنية لم تختف وأنها أساس المشروع التكاملي الأوروبي.

وعليه فإن محاولات إصلاح التنظيم الدولي ترتكز في الأساس على إيجاد علاقات متوازنة بين الدول الأعضاء، وهو التوازن المفقود في أساس تكوينه، والذي دفعت الكثير من الشعوب (ومنها شعبنا الفلسطيني) والكثير من الدول أثمان باهظة بسببه.


ثمة مقاربات كثيرة في هذا الصدد تلامس الجوانب المختلفة للتنظيم الدولي وربما أولها تبادراً للأذهان ضرورة تصويب الميثاق من جهة تطوير بعض المباديء الحاكمة مثل مبدأ عدم التدخل ومبدأ اباحة استخدام القوة في حالة الدفاع عن النفس. المقصود هو غعادة صياغة المساحة الفاصلة بين الشأن الداخلي للدولة وبين اختصاص المجتمع الدولي. بجانب النقاش حول توزيع الصلاحيات بين مؤسسات المنظمة الدولية وتمويلها والعلاقات بين أجهزتها ومنظماتها المختلفة وتفعيل الأمن الجماعي. لكن يظل النقاش حو تطوير عمل مجلس الأمن الدولي هو الاهم في كل ذلك وهو بيت قصيد الكثير من المتحدثين في هذا الشأن. 


 تم تقديم مجموعة مختلفة من المقترحات لإصلاح مجلس الأمن الدولي سعت في  اغلبها للخروج من هيمنة الدول دائمة العضوية من خلال إضافة مجموعة أخرى من الدول صاحبة حق النقد او من خلال توسيع عضوية المجلس وتنويع العضويات فيه بحيث يتم منح عضويات بمستويات مختلفة. من هذه تبادل المقاعد المخصصة لاستخدام حق النقض بحيث يتم تخصيص مقاعد محددة لكل قارة تقوم دول القارة بالتناوب عليها ضمن نسق خاص ومعايير محددة منها الوزن الإقليمي وتعداد السكان وما إلى ذلك من عوامل قياس قوة الدولة.

وبعض المقترحات ذهبت إلى تغيير مفهوم التصويت ونوعيته. في هذا السياق يتم استحضار مفهوم الأغلبية المؤهلة التي تعتمد على مجموع اوزان التصويت التي تمنح لكل دولة وفق مكانتها الدولية والإقليمية وتعداد سكانها كما هو الحال في نظام التصويت المتبع في مؤسسات الإتحاد الاوروبي التنفيذية خاصة المفوضية الأوروبي. بيد أن السعي إلى توسيع عدد أعضاء الدول دائمة العضوية بحيث يتم إدخال دول من القارتين غير الممثلتين فيه وهما أفريقيا وأمريكا اللاتينية يظل الخطاب الأبرز حين يتم الحديث عن تطوير مجلس الامن. فقارة بحجم أفريقيا لا يوجد لها تمثيل في حكومة العالم الدائمة كما ان قارة بثقل امريكا اللاتينية المتزايد في الاقتصاد العالمي أيضاً لا مكان لها حول الطاولة الدائمة. والحديث كان يدور في الكثير من الاحيان عن مصر وجنوب أفريقيا في القارة الأفريقية وعن البرازيل والمكسيك في القارة اللاتينية.  


غير أن مثل هذه الحلول لا تفيد كثيراً لأنها تنطلق من نفس المنطق غير الأخلاقي الذي يمنح البعض الحق في امتلاك قوة يتم حرمان الأغلبية منها: حق الاعتراض والنقض. إنه انعكاس متجدد للإقرار بعدم توازن القوة والحجوم في المجتمع الدولي. وعليه فإن إصلاح مجلس الأمن من خلال توسيع عدد الدول التي تمتلك حق النقض ليس إلا تلبية لرغبة الأقوياء الجدد في ان ينضموا إلى نادي الكبار وبالتالي تشجيع سباق القوة في العالم، وهو لا يعني اكثر من زيادة القوى المهيمنة في التنظيم الدولي. صحيح أن هذا يخفف من غلواء القليل المتنفذ لكنه لا يعني أن القوى الصغيرة والدول الضعيفة ستكون بمنأي عن بطش تلك الدول، بل إن اهم ما سينتج عن هذا الترميم بهذا الشكل هو توزيع مناطق النفوذ والإقرار السلمي بين القوة الجديدة بمناطق الهيمنة التي ستعني ان المجلس ذاته سيكون مجموعة من المجلس والتجمعات المختلفة التي يعني كل جزء منها بمنطقة محددة في العالم. ودروس الحرب الباردة كانت مفيدة في ذلك، وتطوير المجلس على هذا الأساس لن يصب إلا في هذا الاتجاه. وعليه ستفقد المنظمة الدولية الكثير من أسس وجودها كحامية للسلم والامن الدوليين وكساعية إلى تحقيقهما بحيث يصبح توزيع القوة وفق الجغرافيا محدداً لنفوذ المجلس ومقيداً لتدخله. 


مرة أخرى يجب أن يشكل النقاش الأخلاقي أساس أي تدخل لتطوير عمل المنظمة الدولية، ويجب عدم النظر إلى إعادة توزيع القوة بما يتوافق مع صعود قوى اخرى ورغبتها في ترجمة صعودها إلى نفوذ في المؤسسة الدولية. فقانون الغاب الذي فرضته القوى المنتصرة في الحرب العالمية الثانية والذي حولته إلى قوانين ناظمة تحت مبررات أخلاقية ودعاوي البحث عن السلم واستتباب الأمن ليس إلا صورة تجميلية لربط الضعيف ومصيره مع القوى، وجعل الاول يقبل تحت مبررات كثيرة هيمنة القوى الكبرى على قدرات العالم. لاحظوا مثلاً أن اهم دولتين تطالبان بالانضمام إلى المجلس هما القوتين الكبيرتين اللتين خسرتا الحرب العالمية الثانية ولولا تلك الخسارة لكانتا بكل تاكيد ضمن الدول صاحبة حق النقض: اليابان وألمانيا. صحيح أن الدولتين قوتان اقتصاديتان بل كل منهما مارد اقتصادي تساوي قوته قوة عشرات الدول مجتمعة، لكن سبب مطالبهما بكل تأكيد لا يعود إلى هذه القوة إذ أن كاليفورنيا وهي ولاية واحدة من ولايات العم سام تعد القوة الاقتصادية الخامسة على مستوى العالم. فمطالب برلين وطوكيو ليست إلا محاولات لاعادة الاعتبار للقوة التي تم سحقها وتوقيع اتفاقية هزيمتها قبل ذلك وتأسس على أنقاض رحيلها التنظيم الدولي بشكل الحالي.


وبشكل عام، فإن البحث عن ضرورة تغير القواعد الحاكمة للتنظيم الدولي بشكله الحالي تبدو ضرورية للدول الضعيفة وللشعوب المضطهدة التي تعاني من عدم وجود ظهير قوى لها في التنظيم. بيد أن بعض القوة العظمي أيضاً لها وجهة نظرها في عملية تطوير المنظمة الدولية، وربما الأغر ب في كل هؤلاء كان الرئيس دونالد ترامب الذي يرغب (لمفارقة قدرية) في إصلاح المنظمة الدولية. وربما يبدو مفيداً ن نفهم بشكل جيد شكل الإصلاح الذي يريده ترامب الذي سيكون من نتائجه تعزيز قوة الممولين ونتيجة جانبية صغيرة، ولكنها كارثة بالنسبة لنا، ستكون شطب وكالة الغوث، وهذا يقتضي تحليلاً آخر.  

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد