لم يكن إسقاط الطائرة الإسرائيلية (F16) هو الذي أثار سؤال الحرب على الجبهة الشمالية، فقد سبق هذه الحادثة أن أثيرت عشرات التفاصيل التي مؤداها بأن حرباً على هذه الجبهة ستندلع حتماً، خصوصاً وأن تسلح "حزب الله" استمر على ما يبدو بوتائر جديدة والنفوذ الإيراني في سورية لم يتقلص بأية درجة، إن لم نقل أن العكس تماماً هو الصحيح.
معروف أن الإستراتيجية الإسرائيلية في سورية بقيت ثابتة نسبياً، وهي تقوم على إطالة أمد الحرب وإضعاف النظام إلى درجة فرض معادلة سياسية في سورية تكسر نهائياً معادلة محور الممانعة والمقاومة، وتخلق في داخل سورية ما هو على استعداد للتفاهم مع الغرب ومع الولايات المتحدة على وجه الخصوص وصولاً إلى "تعايش" معلن أو غير معلن مع إسرائيل.
ولا تستبعد الاستراتيجية الإسرائيلية في سورية الوصول إلى التقسيم إذا بقي النظام قوياً ومسيطراً ومحكماً على ما يسمى بسورية المفيدة، وإذا ما بقيت المعارضة على حالها في التبعية المباشرة لتركيا وبعض بلدان الخليج دون أن تكون من القوة ما يؤهلها لمؤازرة قوة النظام. أما الأهداف الإسرائيلية المباشرة في سورية فكانت وما زالت إبعاد النفوذ الإيراني من المنطقة الفاصلة بين دمشق والجولان ولمسافة لا تقل عن ثلاثين أو أربعين كيلومتراً عن القوات الإسرائيلية.
عملت إسرائيل على تغذية العناصر الرئيسية المكونة لهذه الاستراتيجية وهي (أي إسرائيل) عملت بكل الوسائل الأمنية والاستخبارية والعسكرية لتأمين متطلبات هذه الاستراتيجية.
وقامت خلال السنوات الأخيرة بتكرار ضربها لأهداف عسكرية تتعلق "بتسليح" حزب الله، ومنع سورية من تطوير بعض تكنولوجيات الصواريخ وخربت الكثير من الأهداف العلمية والبحثية وبعض البنى التحتية للصناعات العسكرية فيها.
لا تشكل قوة النظام في مواجهة المعارضة أي تهديد فعلي لإسرائيل، ولا يوجد "تسليح" لحزب الله وقوته العسكرية الخاصة به ما يهدد أمن إسرائيل المباشر من سورية.
أما تسليح حزب الله ودعمه بالوسائل العسكرية المتطورة فهو قائم على قدم وساق ومنذ حرب عام 2006 وحتى اليوم تضاعفت القوة العسكرية لحزب الله عشرات المرات عما كانت عليه بمعرفة وتيقّن إسرائيل.
بعض الخبراء يرى أن حادثة إسقاط الطائرة ربما تكون رسالة وجهتها روسيا للمعارضة التي أسقطت الطائرة الروسية، ولإسرائيل نفسها، خصوصاً وأن الصاروخ الذي أسقط الطائرة هو صاروخ أميركي تمتلكه إسرائيل وقد تكون إسرائيل هي من زود "جبهة النصرة" بهذه الصواريخ. في حين يرى خبراء آخرون بأن إيران أرادت أن تبعث برسالة إلى إسرائيل أن طائراتها لم تعد آمنة في الأجواء السورية. أما القسم الأكبر من الخبراء فإنه يرى بأن النظام هو من أراد أن يرسل إلى إسرائيل رسالة جديدة مفادها أن استباحة الأجواء السورية لم تعد مقبولة وان على إسرائيل أن تكف نهائياً عن العربدة التي تمارسها في سورية حتى لو وصلت الأمور إلى اندلاع حرب شاملة.
صحيح أنه قد تم بالفعل تطويق حادثة إسقاط الطائرة، وصحيح أن نتنياهو لم يخرج "سالم الرأس" من هذه الحادثة، لكن الصحيح أيضاً أن إسرائيل لا تستطيع تجاهل هذه الحادثة في المستقبل، وأنها لم تعد حرة وطليقة اليدين كما كان عليه الأمر قبل هذه الحادثة.
فما الذي تغير في الواقع عدا عما ذكر أعلاه؟
الذي تغير هو أن الولايات المتحدة عادت لتتحول إلى قوة عسكرية مباشرة في سورية، وهي (أي الولايات المتحدة) باتت تسيطر على مفاصل رئيسية من الحدود العراقية السورية (على الأقل نارياً)، وأنها يمكن أن تقيم قواعد ثابتة على هذه الحدود وقد تصل الأمور إلى تقسيم سورية تقسيماً انتقالياً، وذلك لقطع الطريق على فرض وجهة النظر الروسية في مستقبل سورية، ما سيؤدي حتماً إلى الصدام الشامل مع المعارضة وهجوم كاسح للنظام على كل الجبهات والمواقع بدعم كامل من روسيا وإيران وحزب الله، وهو ما لا يمكن لإسرائيل أن تبقى متفرجة عليه، ولذلك لم يكن حادث إسقاط الطائرة سوى الحصيلة التي انتهت إليها لعبة إرسال الرسائل المتبادلة بين أقطاب الصراع في سورية وعليها.
ليس من مصلحة إسرائيل أن تدخل مباشرة في هذه الحرب وليس من مصلحة لإيران وحزب الله بخوضها قبل استقرار الحالة السياسية في كل من سورية ولبنان.
أما الولايات المتحدة فتريد دوراً أكبر من دورها في عهد أوباما، في حين أن روسيا تعتبر سورية منطقة نفوذ مباشر لها. تركيا لا يهمها سوى منع التواصل الكردي ولكنها ستعود لخوض عشر حروب لمنع هذا التواصل، وهي لا تستطيع القطيعة مع الولايات المتحدة وهي ليست متيقنة من أن روسيا سترضى بالتخلي عن الأكراد نهائياً وتتحالف مع تركيا ضدهم.
الخارطة في سورية في غاية الالتباس، فهل ستبادر إسرائيل إلى استباق الأحداث لكي تفرض في سورية ولبنان معادلة جديدة؟
هل ستكون إسرائيل في وضع آمن حتى لو تغيرت المعادلة القائمة للحل في سورية؟
وهل تستطيع تحمل أعباء حرب شاملة عبر البوابة اللبنانية لتجنب صدام شامل مع إيران والنظام السوري، وماذا سيكون دور كل من الولايات المتحدة وروسيا وتركيا إذا اندلعت هذه الحرب.
لا أحد في هذا العالم يمكنه أن يطمئن على إجابات مقبولة ومعقولة على هذه الدرجة من الواقع السيريالي القائم في سورية. لكن الشيء المؤكد هو أن إسرائيل بين خيارين أحلاهما أمرّ من الآخر.
فإن هي لم تبادر إلى حرب كهذه، فقد تفقد الردع مرة وإلى الأبد، وإن هي بادرت فهي تعرف أن الثمن باهظ، والنتيجة ليست آمنة ولا مضمونة.
لهذا فإن الحرب ممكنة ولكنها ليست حتمية، والشهور القليلة القادمة هي التي ستقول كلمتها حول الطريقة التي ستؤدي إلى الانتقال المباشر من دائرة الإمكانية إلى الترجيح الكبير.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد