عن أية صناعة وهم نتحدث؟
صناعة الوهم لدى الرئيس الأميركي دونالد ترامب واسعة ومتشعبة وممتدة وفي مختلف المجالات. بل يمكن القول إنها (أي صناعة الوهم) سمة رئيسية من سمات الترامبية، وربما تكون الثابت الأهم في «الجلبة» التي أثارها الرئيس الأميركي منذ حملته الانتخابية، مروراً بنجاحه في انتخابات الرئاسة، وبعد أكثر من عام كامل على تربّعه في البيت الأبيض.


الحديث عن صناعة الوهم في القضايا الداخلية الأميركية أصبح اليوم وأكثر من أي وقت مضى مادة للكوميديا والكوميديا السوداء في أوساط كثيرة وكبيرة في المجتمع الأميركي، كما أن صناعة الوهم في الاستراتيجية التي أعلنها الرئيس ترامب تحولت إلى مادة للتندر والاستغراب، حيث أعيدت منظومة الأولويات (أولويات العداء) إلى أوج مرحلة الحرب الباردة، و»تراجعت» كل الأولويات التي «وزعها» ترامب واستبدلت بصورة دراماتيكية.


خفتت المسألتان الكورية والإيرانية، وتحولت روسيا من دولة محبذة للتعاون إلى الرقم الأول في المجابهة والعداء، وأعيد النظر في درجة «الخطر» الصيني دون الاعتراف العلني بذلك، انزوت قوانين الهجرة، و»طار» جدار المكسيك وتقدمت الوظائف فعلاً فإذا بالبورصة الأميركية تهوي لتخسر 1600 نقطة في يوم واحد وفي سابقة لم تحدث في التاريخ الاقتصادي على مدى كل العصور!


أما «الناتو» فلم يدفع «الجزية»، وقالت أوروبا لترامب كلمتها في كل أطروحاته، وتبين الآن أن كلمة أوروبا ويدها هي العليا، ولم يتمكن ترامب من فرض شرط واحد من شروطه. باع الكثير من الأوهام لكن طابور المشترين انفضّ قبل الأوان، وكسدت البضاعة في المخازن الأميركية، وتكدست دون أي رصيد مستقبلي، وقد يتم إتلافها نهائياً في غضون شهور قليلة قادمة.


المنطقة الوحيدة التي حاول الرئيس ترامب أن يكون وفيّاً في تعهداته لها هي الشرق الأوسط، (يا للمفارقة المحزنة)، والعلاقة مع اليمين المتطرف في إسرائيل هي الوحيدة التي «أثمرت» في تعهداته من خلال ما أسماه ب صفقة القرن ، ومن خلال قرار الاعتراف ب القدس عاصمة لإسرائيل.


والسؤال الذي يُطرح الآن: هل هذا «النجاح» في الوفاء بالوعود هو نجاح حقيقي أم هو من صلب صناعة الوهم؟


هنا لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس ترامب ما كان له أبداً أن يدخل في وهم القدرة على تسويق الصفقة لولا أن الإقليم العربي نفسه يعيش أزمات طاحنة من بينها بنية كاملة من الضعف والهشاشة والانكشاف، إضافة إلى ما تولد عن هذه البنية وعن أسباب أخرى كثيرة من أوهام خاصة بهذا الإقليم، ومن قراءة مشوهة لأولياته وقدراته ومصالحه.


المهم في الأمر هنا هو الرئيس ترامب تصور أو صور له، توهم أو تم إيهامه أن صفقة القرن ممكنة.


نظرياً كان يمكن اعتبار هذه الصفقة ممكنة إن هي حافظت على درجة من التوازن وعلى نزعة نحو حد أدنى من الإنصاف والعدل، أو لو أنها (أي الصفقة) انطوت على عناصر ارتكازية يمكن البناء عليها.


المدهش في المسألة هنا هو أن الرئيس الأميركي قد حسم كل المقومات والاحتياطات الكامنة في هذه الصفقة قبل أن تطرح بصورة رسمية من خلال قراره حول القدس.
فما الذي جعل الرئيس ترامب يقدم على ما أقدم عليه؟


هناك على الأغلب ثلاثة احتمالات تقف وراء هذا الموقف للرئيس ترامب:


الاحتمال الأول، أن يكون اليمين واليمين المتطرف في الولايات المتحدة وفي إسرائيل على حد سواء، ربما بات على قناعة تامة وكافية أن الإقليم العربي «سيهضم» القرار الأميركي مع مرور الوقت، وانه (أي هذا الإقليم) مجبر على قبوله حتى لو تم التعارض معه او الاعتراض العلني عليه، وانه سيتحول موضوعياً (أي القرار الأميركي) إلى «قاعدة» للتفاوض بدلاً عن القانون الدولي والشرعية الدولية. 


أما الاحتمال الثاني، فقد يكون القرار الأميركي حصيلة لحسابات الاحتياج الذي سينشأ في ومن سياق سياساته الغرائبية على مختلف المستويات، بحيث أن هذا اليمين المتطرف الحاكم في إسرائيل سيلقي بكل ثقله إلى جانب الرئيس ترامب عندما «تحل» ساعة الحساب.


وأما الاحتمال الثالث، وربما يكون الحاسم بالرغم من الأهمية الخاصة للاحتمالين المذكورين فهو أن طواقم المستشارين وبعض المتحمسين من منطقة الإقليم العربي بمن فيهم إسرائيل قد أقنعوا الرئيس ترامب أن الفلسطينيين أضعف من أن يتمردوا على قراره، وأنهم (أي الفلسطينيين) سيخشون على بقائهم إذا ما اعترضوا، وان بالامكان عقد الصفقة بدون موافقتهم عند الضرورة.


باختصار لقد «شُبّه» للرئيس ترامب أن ما سيقوم به سيتحول إلى «واقع»، ولم يكن أمامه ولم يتبق له سوى إعلان قراره عن القدس لتبدأ العجلة بالدوران السريع.


إذا أضفنا إلى ذلك كله أن الرئيس الأميركي شخص مزاجي الطباع، وعديم الخبرة السياسية، وفاقد للمواصفات القيادية المطلوبة لقيادة دولة بحجم وثقل ودور الولايات المتحدة، فإن صناعة الوهم قد تجسدت في قراره بشأن القدس وبشأن «الصفقة» أكثر من أي قرار آخر، وإن هذه الصناعة وكل المنتجات التي يجري الحديث عنها ستكدس في مخازن الإدارة الأميركية للإتلاف أسوة بكل منتجات صناعة الوهم الأخرى.


على كل حال بدأ الرئيس الأميركي يدرك دون أن يبدي التراجع حتى الآن، ان الرواج الذي كان منتظراً للبضاعة قد بدأ بالتلاشي والاضمحلال.


وإلى أن يدرك الرئيس ترامب أهمية القلم الفلسطيني الذي يوافق أو لا يوافق ـ اي التوقيع الذي يقرر ـ فإن عليه (أي الرئيس ترامب) أن يتدرب على فنون التراجع، وعليه أن يتعلم بعض أبجديات الصفقات السياسية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد