يُجمع القادة الإسرائيليون في الائتلاف الحكومي ربما باستثناءات قليلة على أن حل الدولتين الذي قامت عليه العملية السياسية مع الفلسطينيين غير مقبول وغير قائم في تفكير القيادات المتنفذة. ولعدم رؤية حلول واقعية بديلة يمكن أن يقبلها الفلسطينيون، من قبيل دولة غزة الواسعة في القطاع والأراضي المصرية وتقاسم وظيفي في الضفة والسماح لإسرائيل بضم أجزاء واسعة منها وخاصة تلك التي أقيمت عليها المسستوطنات، وحصر الأمن بيد إسرائيل فقط، وأيضاً لرفض غالبية الإسرائيليين لفكرة الدولة الواحدة سواء أكانت ثنائية القومية أو ديمقراطية لكل مواطنيها، تفضل القيادة الإسرائيلية بقاء الأمر الراهن وتعزيزه بما يمنع إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وقابلة للحياة على الأراضي المحتلة منذ عام 1967.
الإبقاء على الوضع الاحتلالي الراهن ليس خياراً سهلاً، بل هو خيار محفوف بالمخاطر، ولكن هذه المخاطر من وجهة نظر القيادة الإسرائيلية أقل من قيمة "التنازل" عن السيطرة الإسرائيلية على أجزاء واسعة من الضفة الغربية، وفي ظل سيطرة الاتجاه القومي- الديني الممثل لحركة الاستيطان لا أمل في إحداث أي تغيير في الواقع القائم على إدامة الاحتلال وترسيخه، وحتى المعارضة الإسرائيلية لا تجد لها فضاء أو قدرة في العمل على التغيير في السياسة الحكومية، ليس فقط لضعفها العددي، بل وأيضاً لفقدانها البوصلة الملائمة لإحداث التغيير ووجود بلبلة في صفوفها، فعلى سبيل المثال، اعتمد زعيم حزب المعارضة الأكبر "العمل" أفي غباي سياسة أقرب إلى سياسة الحكومة، وعبّر عن تصريحات مشككة في الحلفاء الطبيعيين للمعارضة الصهيونية وهم الفلسطينيون في القائمة المشتركة، وكان موقفه من التسوية والقيادة الفلسطينية أقرب لموقف "الليكود"، فأفقد حزب "العمل" الكثير من مؤيديه ودفع الناس إلى اليمين، صحيح انه نادم الآن ولكن بعد فوات الاوان لا ينفع الندم. وهذه النتيجة تحدث دائماً عندما تتبنى خطاب الخصم ويذهب الناس إليه على اعتبار أنك تعترف ضمنياً بصوابية موقفه، ولا تتقرب أكثر الى الجمهور.
وفي ظل هذا الاختيار الإسرائيلي تبحث خيارات الحرب بشكل منتظم باعتبارها تحصيل حاصل لبقاء الاحتلال. فيتحدثون عن حرب على غزة وحرب في الجبهة الشمالية، حتى أنهم يستخدمون مصطلح حرب الشمال الأولى التي تشمل سورية ولبنان معاً. وبالنسبة لغزة، بالرغم من تصريحات وزير الحرب أفيغدور ليبرمان بشأن عدم نوايا إسرائيل لشن حرب على غزة، الا ان تقديرات جهات إسرائيلية عديدة تقول إن الحرب مع غزة هي مسألة وقت ليس الا في ظل الظروف التي يمر بها القطاع والتي هي من سيّئ الى أسوأ.
وهناك احتمالات عالية لانفجار الوضع في غزة وسرعة التدهور نحو حرب واسعة، وبالمناسبة اسرائيل تكمل التحضيرات للحرب وعلى الأغلب بعد اكتمال بناء الجدار تحت الأرضي حول القطاع لمجابهة أنفاق المقاومة ستكون إسرائيل جاهزة للحرب أكثر مما هي عليه الآن، وهذا قد يستكمل حتى نهاية العام.
الحرب مع لبنان وسورية قصة تتعلق بحزب الله وإيران، فاسرائيل نجحت في شيطنة إيران وفِي دفع الولايات المتحدة للتعامل معها بطريقة عدائية بخلاف الموقف المعتدل لإدارة الرئيس السابق باراك أوباما، كما نجحت في تجنيد دول عربية لاعتبار إيران العدو الأول للعرب، وهي منزعجة جداً من انتصار النظام السوري في حربه ضد الجماعات الإرهابية المتطرفة بالتحالف مع روسيا وإيران وحزب الله، والتواجد القريب لمقاتلي حزب الله وقوات إيرانية قرب المناطق السورية المحتلة، وإمكانية بناء قواعد إيرانية ومصانع لإنتاج الصواريخ الدقيقة، يجعل اسرائيل متحفزة لحرب ضد التواجد الإيراني قي سورية قد تتحول الى حرب شاملة على جبهة لبنان وسورية وحتى ايران نفسها، ما يثلج صدور بعض القادة العرب الذين يرغبون في التحالف مع اسرائيل لهذا الغرض.
نحن على أعتاب ان تطرح الولايات المتحدة خطتها " صفقة القرن " قريباً، وعندها سيكون الموقف الاسرائيلي أقوى ومتشجعاً اكثر لمغامرات كبرى، ومن المرجح كما يشاع ان تستثني أميركا قضايا مهمة من قضايا الوضع الدائم كقضية القدس واللاجئين، وتعالج قضية الحدود بصورة جزئية، ما يجعل قبولها من الجانب الفلسطيني أمراً غير مقبول إطلاقاً. وهذا بدوره سيريح اسرائيل ويطلق يدها في عملية البناء الاستيطاني وإجراءات ضم بعض مناطق (ج) وتطبيق القانون الإسرائيلي على المستوطنات.
امام هذا الواقع الجديد الذي ستخلقه أميركا بخطتها لا يكفي ان يتحدث الفلسطينيون عن خطة عمل مبنية على شعارات وتصريحات قد لا تجد لها تطبيقاً على أرض الواقع، فالتجربة الفلسطينية تقول الكثير في هذا الجانب، ونحن تقريباً كل عامين أو عام نكرر قرارات الأعوام السابقة دون تنفيذ، إما لأن القرارات اكبر من القدرة أو لأن المؤسسة القيادية لا تملك الآليات والجدية للتنفيذ. وحتى لا يصبح كلامنا مجرد اقاويل عامة نسوق مثالاً حياً: نحن نطالب أوروبا بالاعتراف بدولة فلسطين، ولكن لا نفعل شيئاً في هذا السياق، فممثل الاتحاد الاوروبي وممثليات الدول الأوروبية لا يطرق بابها القياديون الفلسطينيون، عدا عن أن الاعتراف يتطلب حملات مكثفة داخل الاتحاد الاوروبي مع الإعلام والمجتمع والبرلمانات والأحزاب السياسية، والنقابات والمنظمات المهنية. ونحن لا نفعل شيئاً على هذا الصعيد. وهنا لا بأس من أن نتعلم من اسرائيل كيف نجحت في شيطنة إيران، وجعل دول كثيرة تتبنى اكذوبة التحريض الفلسطيني.
ربما القرار الذي اتخذته القيادة بالتوجه الى المجتمع الاسرائيلي للتأثير في الرأي العام وخلق لوبي ضاغط مع السلام والحل العادل للصراع هو الخطوة الأهم على مستوى العمل الميداني، ولكنها لا تزال محدودة الفعالية من حيث الحجم والتأثير وبحاجة الى مصادر وجهود وآليات جديدة، فليس قدرنا انتظار الآخرين ليقرروا لنا لنرد عليهم، وعلينا أن نصنع السياسة ونقرر مستقبلنا.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية