هذا الوصف المجازي إلى حد الواقع والواقعي إلى حد المجاز للشاعر الفيلسوف والفيلسوف الشاعر محمود درويش هو أعمق ما قيل وما كتب في وصف النظام الأميركي على مدى تبلور وتطور المنظومة المؤسساتية المسيطرة على الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية الأميركية.


صحيح أن هذا الوصف لا يطال ولا يجوز أن يُفهم بأنه يطال الملايين من الشعب الأميركي، ولا عشرات من النخب الخيّرة والمبدعة والتي قدمت للبشرية أعظم الإنجازات العلمية والثقافية على مدى عشرات السنين، إضافة إلى ألمع المبادرات الخارقة في تطوير البشرية المعاصرة.


لكن الصحيح بالمقابل أن هذه الإنجازات والإبداعات على أهميتها التاريخية قد أدغمت في المنظومة السياسية المسيطرة، وأعيد توظيفها في خدمة المصالح المباشرة لهذه المنظومة.
ويمكن ملاحظة اربع مراحل اساسية في تطور وتبلور هذه المنظومة إذا ما أخذنا بالاعتبار الرئيسي حقبة الحرب العالمية الثانية وما بعدها.


واضح أن حقبة الحرب العالمية الثانية وما بعدها ليست معزولة عن السياق التاريخي للفترة الممتدة ما بين الثورة الأميركية وبداية القرن الماضي، لكن تلك المراحل والحقب التي سبقت مرحلة الحرب العالمية الثانية تحتاج إلى من هم أكثر تخصصاً ومعرفة ومتابعة من كاتب هذه السطور.


وحتى المراحل الأربع التي سنأتي عليها ليست سوى محطات هي أقرب إلى الرصد والتتبع الصحافي.


المرحلة الأولى: مرحلة ما قبل الحرب وأثناء هذه الحرب والفترة المباشرة التي تلتها.


لم تكن الولايات المتحدة جزءاً عضوياً من هذه الحرب، ودخلت إليها في سياق مدروس، ولم يكن لها بعد السيطرة على منظومة العالم الرأسمالي، وكانت تتحيّن الفرصة التاريخية لتحل في مكان الريادة بعد انهيار النظام الاستعماري القديم، وبعد أن تكبدت أوروبا واليابان خسائر جسيمة جراء الحرب وجراء الأزمات الاقتصادية التي عصفت بالنظام الرأسمالي ما بين الحربين، وجراء الإنهاك الذي أصاب كل الاقتصاديات الغربية طوال فترة الحروب على السيطرة والنفوذ واقتسام العالم وإعادة اقتسامه.


في هذه المرحلة كانت الولايات المتحدة تحضّر نفسها للوراثة من جهة، وتحضر نفسها للحرب الباردة دون أن تخفي أطماعها المباشرة في آسيا، وخصوصاً في كوريا وفي جنوب شرق آسيا باعتبار أن باقي المناطق كانت في طور الانتقال إلى واقع جديد.


كانت العدوانية والتوسعية الأميركية في تلك المرحلة معقدة إلى حد ما، وكانت العدوانية انتقائية بحسب القدرة سياسياً، وبما لا يعطّل برامج وراثة المنظومة الاستعمارية المنهارة.
عملت الماكينة الاقتصادية الأميركية بنشاط لإعادة بناء أوروبا وإعادة تأهيل ألمانيا واليابان، وكان الاهتمام الرئيسي ينصب على الهيمنة السياسية تحضيراً لمرحلة قيادة العالم عن قوة واقتدار، بل وعن وعي محكوم بالمعادلة الاقتصادية والدفاعية في مواجهة القوة السوفياتية الصاعدة.


المرحلة الثانية، هي مرحلة الحرب الباردة والتي توافقت إبانها أن تتعايش مع الاشتراكية ونظامها السوفياتي بما في ذلك القبول بنوع من تقاسم النفوذ الدولي مع النظام الاشتراكي تحضيراً لكسب المباراة الاقتصادية مع هذا النظام، باعتبار أن الذهاب إلى حلول عسكرية ضد هذا النظام كان مستحيلاً ولم يكن هناك اية فرصة لكسب المعركة عسكرياً.


في هذه المرحلة الثالثة، بدأت الولايات المتحدة من خلال الريغانية ومن خلال التاتشرية بالهجوم المنظم لخلخلة النظام الاشتراكي، وبدأ التحضير للانقضاض على هذا النظام بعد أن تم إنهاك الاقتصاد السوفياتي وإجباره على الانزواء في الركن العسكري ومنع تمدد الصناعة السوفياتية إلى الاستهلاك المدني المباشر، وإجبار صناعته على تسخير مقدرات التراكم نحو الشؤون الدفاعية، وإجبار السوفيات على تقاسم البضائع الاستهلاكية مع معظم البلدان الاشتراكية ومع باقي دول العالم التي كانت على علاقة سياسية قوية مع السوفيات.


المرحلة الرابعة، هي مرحلة الاستفراد بالعالم بعد سقوط النظام الاشتراكي. في هذه المرحلة تأكد ربح المعركة مع الاشتراكية وبدت الولايات المتحدة هي السيد الوحيد والأوحد لهذا العالم، وانتهت القطبية الثنائية، وبدأت معركة جديدة، بل الحرب الجديدة «لقوننة» السيطرة الأميركية ـ منظمة التجارة الدولية ـ وأصبحت الأمركة للعلاقات الدولية هي المظهر السائد في المعادلة الدولية الجديدة.


وبالنسبة لأميركا اللاتينية فقد عملت الولايات المتحدة طوال هذه المراحل الأربع لكي تكون الحديقة الخلفية بها، وعاثت بها فساداً واستبداداً، ولجأت إلى أبشع صور العنف والانقلابات ودعم الدكتاتوريات فيها لإبقائها تحت المظلة الأميركية.


ومنذ ريغان وحتى يومنا هذا أصبح تداول السلطة في الولايات المتحدة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي يسير وفق منظومة من تصاعد دور اليمين واليمين المتطرف بصورة دائمة ومضطردة حتى وصلنا إلى الترامبية القائمة اليوم.


تصاعد اليمين دوراً وقوة وعدوانية في الولايات المتحدة صار حتمياً، وأصبح السمة السائدة في المنظومة الحاكمة في الولايات المتحدة كخيار اقتصادي وعسكري واجتماعي وثقافي للتحول إلى نسخة جديدة من الفاشية الجديدة، والتي ما زال ينقص البحث حولها الكثير من الأبحاث والدراسات.


التحول إلى الفاشية الجديدة مطعمة بقدر مقيد من «الديمقراطية» هو محور تطور الرأسمالية المتوحشة الجديدة والعلاقة مع إسرائيل ونمط التحالف معها ليس إلاّ سياقاً لهذا التطور وهو ما سنحاول معالجته في المقال القادم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد