إذا كان يمكن القول: إن تقسيم ألمانيا، بين معسكري الشرق والغرب، كان بمثابة الفصل الأخير في الحرب العالمية الثانية، فيما كان توحيدها ثانية عام 1990 بمثابة إعلان لانتهاء الحرب الباردة بين المعسكرين إياهما، فإنه يمكن القول: إن تقسيم سورية الذي تظهر معالمه واضحة، بعد دحر "داعش"، ربما يكون الفصل الأول في حرب كونية من نوع آخر، أي لا هي بالحرب الساخنة التي كانت عليهما الحربان العالميتان: الأولى والثانية، ولا هي بالحرب الباردة التي كانت عليها حال العلاقات بين معسكري الشرق والغرب فيما بين عامي 1945_1990.


ولقد بدأ الأمر منذ العام 2011، وضمن سياق ما سمي بالربيع العربي، حين ظهرت احتجاجات شعبية في الجنوب السوري، في درعا، ثم انتقلت إلى أكثر من مكان، لتواجه سريعاً بالقمع الأمني، ومن ثم وبسرعة تحولت المواجهة إلى حرب عسكرية ، بعد أن تدخلت دول إقليمية، في مقدمتها دول الخليج (السعودية، قطر، والأمارات) ولكن لوجستياً، أي من خلال دعم المعارضة السياسية، ومن ثم المعارضة العسكرية التي اعتمدت أولاً وبالأساس على الضباط والجنود الذين أعلنوا تباعاً انفصالهم عن النظام، وتشكيل الجيش الحر، بعد ذلك. 


لكن مع توالي فصول المواجهة العسكرية، ومع سقوط أنظمة عربية في المنطقة، تدخلت إيران ومعها "حزب الله" عسكرياً إلى جانب النظام، لحمايته من السقوط، وظل الأمر هكذا، مواجهة تطحن البلاد، إلى أن بدأت تتسلل الجماعات الجهادية المتطرفة، والتي بدأت بـ "النصرة" ومن ثم تبعتها "داعش"، التي حققت مكاسب وصلت إلى السيطرة وحدها تقريباً على ثلث البلاد التي تقسمت واقعياً بين النظام والمعارضة السياسية والعسكرية غير الموحدة، و"داعش". 


بعد وقت "توحّد" الجميع ضد داعش، وحاولت الأطراف الخارجية التوصل لحل سياسي، مع استمرار القتال على الأرض، الذي ظل سجالاً بهدف تآكل البلاد وتدميرها وإحداث فرز طائفي مع نزوح نصف الشعب السوري تقريباً داخل وخارج البلاد، لكن قتال داعش كان في الجانب الذي تحتله من العراق، عبر عملية عسكرية للنظام العراقي مدعوماً من الولايات المتحدة، التي تعتبر عرّاب النظام العراقي في حقبة ما بعد صدام حسين، أما في الجانب الآخر من "دولة داعش" أي الجانب السوري، فقد اختلط الأمر، خاصة أنه قد سبق عملية دحر داعش من العراق تدخل عسكري روسي في سورية إلى جانب النظام، غيّر من الموقف الميداني، بحيث استعاد النظام السيطرة على المدن المهمة التي كانت تسطير عليها المعارضة، مثل: حمص، حماة، وحلب، وهي الشريط الطولي السني، الذي ينتهي بدرعا مروراً بالعاصمة دمشق. 


لكن التدخل الروسي كما هو حال كل التدخلات الأجنبية الأخرى ليس بلا ثمن، فروسيا استعادت بدخولها الناجح لسورية عسكرياً بعضاً من نفوذ الاتحاد السوفياتي في المنطقة، وتقريباً وازنت بين وجودها في سورية والوجود العسكري الأميركي في العراق. 


والنفوذ الروسي يرتكز بشكل محوري على القاعدة العسكرية التي أقامتها موسكو على الشاطئ الشرقي للمتوسط، حيث إنها الدولة الأوروبية الشرقية التي لا تصل قواتها إلى هذا البحر الذي يطل على كل الجنوب الأوروبي، وقد تجاوز ذلك إلى كل المناطق التي يسيطر عليها النظام، حيث يتمتع الضباط الروس بصلاحيات ونفوذ لا حدود لهما. 


أما في المناطق المحيطة بالعاصمة حيث حرص النظام على تشكيل الحامية لرأسه، من حزب الله والحرس الثوري الإيراني، يبدو نفوذ إيران بلا حدود خاصة لجهة التأثير على قرارات وسياسة النظام، وفي الجنوب وبعد صمت وترتيب من تحت الطاولة، ظهرت إسرائيل أولاً من خلال اتفاقات غير معلنة عقدتها مع روسيا والأردن لخلق حزام أمني يصل إلى حدود دمشق ويشمل نحو أكثر من 50 كيلومتراً من حدودها الشمالية الشرقية، وثانياً من خلال فرض هذه المنطقة العازلة على الأرض، عبر ما تقوم به من قصف مدفعي وجوي لما تسميه وجود قواعد لحزب الله في المنطقة. 


فيما كان التدخل العسكري الأميركي عبر الحليف الكردي السوري، ضمن عملية عسكرية مشتركة ترافق مع التدخل الروسي في تشرين الأول عام 2015 لفرض السيطرة على شمال شرقي سورية المحاذي للعراق حيث توجد قواتها ونفوذها، لينتهي الأمر هذه الأيام بما يسمى بعملية درع الفرات التي تقوم بها تركيا منذ نحو عشرة أيام، وتهدف إلى فرض سيطرة ونفوذ تركيا على شمال غربي البلاد، بحجة محاربة أو مواجهة أو صد النفوذ الكردي خشية أن يقوم إقليم كردي سوري على حدودها كما هو حال الإقليم الكردي العراقي. 
بدأت العملية باندفاع الجيش التركي تجاه عفرين التي تبعد نحو 25 كيلومتراً شرق الحدود الشرقية لتركيا، فيما تعلن أنقرة أنها تستهدف منبج، وصولاً إلى حوض الفرات شرقاً. 


لا تقيم الدول الإقليمية الثلاث: إسرائيل، إيران، وتركيا، والدولتان الكونيتان: روسيا وأميركا، أي اعتبار لا لسيادة سورية ولا لمصالح الشعب السوري، وحيث نجح النظام في منع سقوطه، فإنه عبر هذا التدويل للصراع، فشل في حماية سورية كدولة، وإن كان ليس هناك في الأفق احتمال لتقسيم سورية بين مكوناتها الطائفية كما كان الكثير منا يتوقع سابقاً، فإن تقسيمها إلى مناطق نفوذ بين الدول الإقليمية وكل من روسيا وأميركا إنما هو أمر واقع وعلى الأرض وفعلي دون أدنى ريب أو شك. 


وهذا يعني أن ما حدث في خمس دول عربية، منذ العام 2011 أو حتى ست دول أي كل من تونس، مصر، اليمن، ليبيا وسورية، إضافة للعراق من تدخل خارجي لم يأت لها بأي خير، بل على العكس تماماً، دفع تونس إلى أزمة اقتصادية عميقة، ومصر إلى مشكلة أمنية، واليمن إلى كارثة، وليبيا وسورية والعراق إلى تفكك واستعمار متعدد جديد عبر مناطق النفوذ الأجنبية، فيما يخضع كل الإقليم العربي إلى حالة من الفوضى والضعف، لن تتوقف معها حالة الانحدار، إلا بعد أن تبلغ أبعد مدى، وإلى أن يخرج من بين الرماد "فينيق" عربي.


Rajab22@hotmail.com

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد