لم يكن للتطورات الخطرة في قضية القدس ، والتي كان أبرزها اعتراف الرئيس الاميركي ترامب بالمدينة عاصمة لإسرائيل، كثير الأثر على حالة الوحدة الوطنية الفلسطينية ولا على السعي الجاد من أجل تطوير المصالحة، وهو ما يعكس إما عدم إدراك لخطورة المرحلة وتبعات ما جرى، او أن حالة الإنقسام أضحت أعتى من كل حاجة للوحدة. وربما يذهب التفكير بالمرء إلى الظن بان المصالحة لم تعد ممكنة، وهذا يمكن تلمسه ببيانات النعي والرثاء التي باتت تتصدر صفحات التواصل الاجتماعي، حيث المزاج العام صار يميل إلى أن الفشل حليف هذه المحاولة كما في كل محاولة أخرى. وكأننا نواصل حلقة جديدة من المسلسل الذي باتت نهايته المفتوحة معروفة سلفاً


كان الأجدر بتدهور الوضع السياسي، وخطورة خطوة ترامب أن تدفعنا إلى التفكير بجدية لتجاوز الكثير من مناطق الخلاف، والنظر بعمق في المصلحة الغائبة التعي نحاول طوال سنوات مضت ان نغمض عيوننا عنها. ففي المشاريع الكبرى لا تبدو التفاصيل ذات أهمية حتى وإن استوطن فيها الشيطان. أما في حالتنا الفلسطينية فتبدو التفاصيل وتبدو خطوات الشيطان ووقع حوافره على الأسفلت اكثر أهمية من نهاية الطريق المرجوة. ليس أن الطريق أجمل من البيت – بمجاز محمود درويش- ولكن لأن ثمة نزوعا بات جينياً نحو الضياع وتفضيل التيه بدلاً من سلامة الوصول. ونحن عندها أمام معضلة كبيرة. هل ننجو منها؟ 


الاجابة ذاتية قبل كل شيء. إذ أن سمة الشعوب أن تشكل التهديدات الخارجية المحرك الأساس نحو الشعور بالخطر الذي بدوره يدفع نحو التآلف والتوحد وتجاوز الخلافات والفروقات صغيرها وكبيرها. هل اننا لا نشعر بالخطر. من المؤكد ان ثمة قصور أو بما اختلاف (نحن نعشق الخلافات) في فهم الخطر المشترك. وربما في تعريفنا للخطر. فإذا كان اعتداء ترامب على الرواية التاريخية للشعب الفلسطيني في مدينة الآباء والأجداد ومهم الحلم ومنبعه ومبتغاه لا تعني تهديداً مشتركاً فأين يمكن لهذا التهديد ان يكون! علامة تعجب تستحق أن يتم بعدها في تاريخ الحركة الوطنية لقراءة ثنائيات التعارض والتوافق. ستثير الاجابات المزيد من علامات التعجب.


اتسم هذا التاريخ بثنائية الإختلاف والاتفاق، وهي ثنائية طبيعية في نمو وتطور الحركات الوطنية، وربما أن الصراع والتناقض هاتين الحالتين هو من ينتج حالة الدفع إلى الامام المطلوبة في نشوء الوطنيات. وتاريخ الشعوب والخبرات الحديث والمعاصرة تتحدث عن تلك التجارب التي كان فيها الصراع الداخلي محركاً للبحث عن نقاط توافق جديدة بين مكونات الامة الواحدة. وهذا ينسحب على تجارب كبرى مثل الحرب الأهلية الأميركية وما قادت له من دستور فيلادلفيا، والحروب الداخلية الإيطالية وجهود غاليباردي وذاته في ألمانيا والوحدة بعد ذلك على يد بسمارك والحرب الأهلية الأسبانية، والصراع القاتلة في امريكا اللاتينية ونجاح ثم تعثر الديمقراطيات الناهضة هناك، والصراع والتوافق الذي تلا كل ذلك. المحصلة ان الشعوب لا تتصارع إلى الأبد. لأن الشعب حين يتصارع إلى الأبد لا يعود شعباً، بل يصير شعوباً مختلفة. ومن غير المنطقي أن يستمر صراع الشعب الواحد إلى امد طويل، لأن هذا يعني أن ليس ثمة شعب، بل مجموعات سواءً كانت أثنية أو جغرافية أو دينية تتقاتل من اجل حيزها الخاص الذي سيعني في نهاية المطاف اكتمال تبلورها كجماعة منفصلة. وعادة يكون للقوى الخارجية ولمنظومة الحدود والعلاقات تأثير على استقلال تلك الجماعات او العمل نحو المزيد من انزياحها عن الجماعة الكبرى التي يمكن الوهمك بوجود روابط معها. قد يكون هذا صحيحاً.


هل يتقرح ذلك الخشية من حدوث الأمر ذاته في السياق الفلسطيني ما لم تستعاد الوحدة الوطنية! قد يكون هذا ممكناً في ظل وجود قوى دفع خارجية تفضل هذا الخيار خاصة أن ثمة مقترحات مقلقة في السياق الدولي تدفع غزة لمصيرها الخاص. بالطبع قد لا توجد دولة في غزة ولكن يمكن أن يتطور كيان ما يصبح الاسفنجة التي تمتص تطلعات الفلسطينيين الوطنية دون أن يتحقق منها شيء. وأيضاً قد لا يحدث هذا ويجب أن لا يحدث. ان العمل على قتل الاحلام الوطنية الفلسطينية من الداخل أشد خطورة على قتلها من الخارج. وحين تتضافر الاخطاء الذاتية وتتحد الأخطاء الخارجية يصبح الخوف على الحلم كبيراً. والشعوب التي لا تخاف على أحلامها وتحميها من الرياح تجازف في الإبحار في عتمة المستقبل. 


وربما أن التشخيص الحقيقي الذي يفرق بين تحقيق المصالحة وتحقيق الوحدة الوطنية هو الصحيح في هذا السياق، إذ ان الفعل الجدي يجب أن يكون في سبيل استعادة الوحدة الوطنية لا انجاز المصالحة. فإنجاز المصالحة يعني "حل الطوشة" ولا يعني التفكير في المستقبل، واستعادة المفقود، إذ أن الإنقسام حدث بعد أن فقدنا الوحدة الوطنية. وحين نقوم بحل الطوشة فإننا نبحث عن صيغ توفيقية لتجاوز الخلاف ولا تعني اننا نسعى للوضع الطبيعي. أيضاً قد يكون البحث عن حل الطوشة مهماً لكنه في الحالة الفلسطينية قد استنفذ أغلب جهداً حتى بات التفكير في تفاصيله معطلاً للتفكير في القضايا الهامة. يجب العمل في مسارين لا يعطل أحدهما الآخر ولكن على قاعدة تراتبية الأهمية. وهذا يتطلب إلى جانب الجهود الرسمية احياء لجهود التفكير والتفاكر والجلسات الموسعة التي يمكن لها أن تقدم مقترحات أعمق من راتب الموظفين ووجود الشرطة على المعابر. ثمة حقائق غائبة بتنا مثل التائهين في الغابة ونتقاتل حول موعد العشاء. ولا يوجد عاقل يمكن له أن يفسر عجزنا عن القفز عن تفاصيل الخلاف فيما القدس لم تعد قضية صراع بيننا وبين تل أبيب بل ومع واشنطن، وان الأرض تسرق وتهود وأن احلام البعض الصغيرة بإمبراطورية في غزة صارت تقتات من لحم الحلم الكبير.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد