يتفق الكل الفلسطيني وغير الفلسطيني المهتم بمجريات الأحداث التي تتصل بالصراع الفلسطيني العربي الصهيوني، بأن قرار الرئيس الأميركي بشأن القدس ، قد شكل نهاية مرحلة، وبداية مرحلة أخرى، أشد خطورة، ولكنها ليست نهاية المطاف أو الأشد خطورة. 


عند الحديث عن أسباب هذا التحول غير الدراماتيكي، نجد أنفسنا أمام فريقين عموماً، أحدهما شعاراتي، سطحي، إما أن يحيل الأمر إلى شخصية الرئيس ترامب، أو إلى فريقه، من اليهود والمتصهينين المسيحيين، والآخر يذهب إلى أعماق التحليل، فيرى أن هذه الإدارة بما في ذلك رئيسها، تعكس طبيعة التحولات الجارية في الولايات المتحدة، وارتباط ذلك بالتحولات السياسية على المستوى الدولي، وعلى المستويات الإقليمية والعربية فضلاً عن مآل التحولات التي جرت على المشروع الصهيوني.


كان توقيع اتفاقية أوسلو عام 1993، بداية مرحلة جديدة في الصراع، وبغض النظر عن أن كل ما يقال عن هذه المرحلة وطابعها العام والخاص سلبي إلاّ أن من الظلم اعتبار أوسلو خياراً للفلسطينيين في حينه، وانه كان بالإمكان الذهاب إلى خيارات أخرى أقل سلبية. يمكن أن يخضع هذا التقدير للنقاش والاختلاف، ولكن على الكل أن يتذكر بأن إعلان النظام العالمي الجديد بقيادة احتكارية من قبل الولايات المتحدة عام 1991، قد جاء بعد انهيار المنظومة الاشتراكية وتفكك الاتحاد السوفياتي عام 1989. هذا يعني أن الفلسطيني في ذلك الوقت قد فقد الظهير، والحليف، وأصبح فريسة لظروف صعبة ومعقّدة، كان من أبرز معالمها انقسام وانهيار المنظومة العربية الجماعية، والانقسام والانهيار العربي لم يتوقف على السياسة التي اتبعتها في حينه دول الخليج، بل امتد ليطال أنظمة قومية ووطنية، وجدت نفسها في ساحة المعركة مقابل عرب آخرين.


اليوم الوضع العربي أشد انقساماً وإنهاكاً وتناقضاً وانهياراً، بينما يتحرك النظام العالمي نحو تراجع دور ومكانة الولايات المتحدة، ونشوء عالم متعدد الأقطاب، يتصارع بقوة شديدة، على مصادر القوة والتأثير في توزيع خارطة المصالح، في مواجهة هذا الوضع الجديد الذي تعود فيه الولايات المتحدة، للاصطفاف الكامل مع إسرائيل، التي تستثمر الاضطراب العربي للتقدم بسرعة نحو تحقيق مخططاتها التوسعية، نجد أنفسنا كفلسطينيين مرة أخرى، أمام خيارات محدودة، ومواقف  وقراءات وسياسات متباينة. وإزاء جدل الخيارات، يهيمن على السياسة الفلسطينية منطق الانقسام وعدم الثقة، الأمر الذي يحيل هذا الجدل، إلى حالة من الفوضى والشعاراتية والمزايدات التي تضفي قدراً أعمق من الإحباط واليأس.


يصاب المرء بالغثيان حين يسمع بعض المنتسبين لمراكز البحث والدراسات فلسطينيين وعرباً، وهو يطالب بوحدة الفلسطينيين ووحدة العرب، وايضاً وحدة المسلمين. ولمجابهة التحدي الأميركي الإسرائيلي يطالب هؤلاء بالاندفاع نحو انتفاضة شاملة، وإعلان الكفاح المسلح في كل الأرض الفلسطينية بما في ذلك اراضي عام 1948، ووفق هذا المنظور الثوري مطلوب ابتداءً حل السلطة الفلسطينية، والإعلان عن التخلي كلياً ودفعة واحدة عن اتفاقية اوسلو وتوابعها ومنتجاتها. يذكرنا ذلك بما كانت تطالب به بعض القوى الاشتراكية المتطرفة التي  رفعت شعار الثورة الدائمة في مواجهة طاغوت الدول الرأسمالية من أجل إقامة المجتمع الاشتراكي على سطح الكرة الأرضية.


بعض هؤلاء، أيضاً، ينطلقون من انتماءات عقائدية، الكل فلسطينيين وعرباً، إسلاميين وعلمانيين، وطنيين وقوميين، ليبراليين واشتراكيين بأن يعتمدوا الخطاب الديني أساساً في مواجهة الأبعاد الدينية في القرارات الأميركية الإسرائيلية وكأن المسألة فقط تتعلق في البعد الديني للقدس. هنا نجد أنفسنا أمام محاولة لإعادة البريق للخطاب والجماعات الدينية انطلاقاً من رمزية القدس.


وبرأينا أن سياق البحث عن خيارات الفلسطينيين للتعامل مع المرحلة الجديدة يقتضي إعمال العقل في التفكير السياسي العميق، أكثر من الاهتمام بالمواقف والقرارات الآنية، حتى لو كان لا بد من اتخاذ مواقف وقرارات تعبر جزئياً عن التغيير المطلوب والوجهة التي ينبغي أن تشير إليها مثل هذه القرارات والمواقف والسياسات.


من حيث المبدأ ينبغي لمن يرغب في المساهمة الوطنية المخلصة، أن يأخذ بعين الاعتبار بأن الانقلاب الشامل والجذري ودفعة واحدة على مرحلة تمتد إلى نحو ربع قرن من الزمان هو أمر غير ممكن وينطوي على مغامرات لا علاقة لها بالسياسة وعلومها وفنونها.


إذا كان من غير الممكن رغم توفر الظروف، وحرص الطرفين «فتح» و» حماس » على إنجاز المصالحة، أن يتم الانقلاب الشامل على نحو أحد عشر عاماً من الانقسام، هكذا بجرة قلم، فإن الأمر ذاته ينسحب على مرحلة أوسلو، التي لم تعد مجرد اتفاق، وإنما تحولت إلى مؤسسة وثقافة وطريقة حياة وتفاصيل كثيرة. إزاء ذلك يمكن أن نسجل على القيادة الفلسطينية بطء تحركها نحو تنفيذ قرارات المجلس المركزي، حتى لو أن الأمر سيتخذ طابعاً تدريجياً، إذ لم تجتمع اللجنة التنفيذية ولا القيادة المؤقتة لمنظمة التحرير منذ انتهاء أعمال المركزي، وبقيت الأمور محصورة فيما يقوم به الرئيس من نشاطات سياسية.


ومنذ قرار المركزي، أيضاً، لم نلمس تصعيداً في حركة الجماهير ونحو زيادة وتائر المقاومة الشعبية السلمية، لكن مجابهة هذه المرحلة بما تنطوي عليه من مخاطر، وما تشير إليه من مخاطر لاحقة، يتطلب حواراً عميقاً وطنياً جامعاً يتناول إعادة تعريف المرحلة، وإعادة تعريف المشروع الوطني، وبناء على ذلك إعادة بناء كل أدوات ومؤسسات العمل الوطني الفلسطيني داخل وخارج الأرض المحتلة.


وفي هذا السياق، ايضاً، لا بد من إعادة تعريف الأرض المحتلة، بعد أن تجاوزت الولايات المتحدة وإسرائيل القرارات الدولية التي حصرت التعريف بالأراضي المحتلة منذ عام 1967، وإذا كان التكتيك السياسي يفترض عدم الاستعجال في إعلان تعريف الأرض المحتلة، فإن العمل على الأرض ينبغي أن يتم على هذا الأساس، الصراع الجاري عنوانه وأداته الإنسان، ولذلك لا بد من أن يكون صمود الإنسان الفلسطيني على أرضه، هو المهمة الأولى التي تنبني عليها السياسة الداخلية والخارجية.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد