لا تبدو الحالة الوطنية في حالة جيدة ولا يبدو في الأفق الكثير من البشائر، بل ان حجم التحديات بات اكبر والجهود المبذولة للتصدي لها بحاجة للكثير من المضاعفة والتنسيق. واحد ابرز استراتيجيات الشعوب في الحفاظ على بقائها هو توحيد جهدها وطاقاتها بغية تصليب جبهتها الداخلية ومناعتها وجعل المهمة اكثر صعوبة على أعدائها. 


مرة أخرى، انه الدرس الأهم في التاريخ المتعلق في الوحدة الوطنية وصون المصالح العليا المشتركة للمواطنين. ولم تكن لتنشأ الدولة لولا هذا الإحساس بضرورة التعاقد من اجل حماية المجتمع من بطش الأفراد وحماية المجتمع من بطش المجتمعات الأخرى التي ستصبح بعد ذلك دولا. 

هل وصلنا إلى هنا؟ 
سؤال تحمل الإجابة عنه الكثير من المرارة لأنها تكشف واقعنا الذي نقسو فيه على ماضينا ونتجاوز أحلام مستقبلنا. لا يجب بأي حال ان نسمح لأنفسنا بالعودة للوراء. النظر للمستقبل لا يكون بالنظر للخلف بل بالتحديق في عتمة الحاضر بحثا عن الغد. والمستقبل ليس الغد انه الغد الذي نريد. ودون رسم تدوين مشترك لهذا الغد فان البحث عنه سيكون صراع إرادات قاسيا بين التنظيمات، صراعا يدفع الوطن والمواطن ثمنه. 


المستقبل كلمة السر في الخروج من النفق. تخيلوا السطر أو الصفحة التي سيكتبها التاريخ عن مرحلتنا هذه، أو الدرس الذي سيقرؤه أحفاد أحفادنا بعد مئات السنين في منهاج التربية الوطنية أو التاريخ الوطني عنا. ماذا سيقول؟ وبأي العبارات سيتم وصف زمننا. تذكرون كيف نقول عصور الظلام، الجاهلية، عصر الانحطاط، في المقابل نقول عصر النهضة والتنوير وعصر الفتوحات. كل عصر له صفته وكل زمن له شخوصه الذين يصنعون أحداثه. ما الذي سيقال عنا.


في حالتنا الفلسطينية فإن النظر للمستقبل يتطلب القفز عن عثرات الحاضر. وهل ثمة عثرة اكبر من الانقسام الذي يكوي سني عمرنا بلا رحمة. القفز عن الانقسام وإنهاؤه يعني أننا في الوجهة السليمة للنظر للمستقبل. لا يمكن لنا أن نعيش في آلام الماضي وخيباته ونزعم أننا نبحث عن الخير العام. فالحق بين والباطل بين وبينهما برزخ لا يلتقيان. 


النظر للمستقبل يتطلب شجاعة في تجاوز الذات والبحث عن الهم العام. والذات في الحالة الوطنية هي الحزب والتنظيم. لاحظوا في المباحثات الوطنية وليست المصالحة فإن تغليب المصالح الحزبية هو أساس الفشل الكبير الذي يصيبها. حين يكون الحزب اكبر من الوطن لا يعود الوطن موجودا. لأن الوطن لا يقبل القسمة علي اثنين. الوطن لا يأتي تاليا، بل هو دائما أولا. ودون ان نعي ذلك فإننا في الطريق الخطأ. والشعوب التي تحترف السير في الطريق الخطأ تنتهي، تزول من الوجود، وان شعبا قدم قادته على محراب الحرية لا يستحق الزوال، بل يستحق مستقبلا افضل. ومهمة المجتمع السياسي بتنظيماته ومكوناته المختلفة البحث عن هذا المستقبل والعمل على تحقيق الخير العام لا إفشال كل شي من اجل المصالح والمطامع الحزبية. هذا الإدراك وحده يساعدنا في الخروج من وحل الانقسام الذي لا يريد شبحه ان يغادرنا. هناك من يريد له ان يظل كابوسا يلاحقنا، يقف فوق رؤوسنا، ينغص حياتنا، يقتل أحلام شبابنا، يقتات على أمانينا. 


وفي كل الأحوال يجب ألا نسمح بفشل المصالحة حتى لو لم تحقق كل المطلوب منها وحتى لو لم تتجسد كل تطلعات وأمنيات المواطنين من ورائها. من غير المسموح العودة للوراء. المصالحة يجب ان تكون أمرا حتميا. صحيح أنها حتى الآن لم تأت للأطراف بما كانوا يتوقعونه، فبالنسبة للسلطة في رام الله فهي لم تتمكن وبالنسبة لـ" حماس " فان الخمسين ألف موظف لم يتلقوا رواتبهم. وهذه قضايا إشكالية لكن المؤكد أن الحد القليل يمكن ان يساهم في إنعاش حياة الناس. لاحظوا التحسن في الكهرباء. يجب ان يكون هم المصالحة هو الناس وشروط حياتهم دون التقليل من قيمة المشاكل العالقة. لذا فإن المهمة الوطنية الأولى هي حماية المصالحة من أعدائها سريعي الانقضاض على جسد الوحدة الوطنية ينهشونه بلا رحمة. 


النظر للخلف يعني رمي المستقبل للخلف. لا يمكن أن ننظر للخلف ونزعم أننا نسقي شجرة المستقبل. والمصالحة هي بوصلتنا في الذهاب نحو المستقبل وحين نصر على انقسامنا فإننا نتنازل عن هذا المستقبل. وكما هي الطبيعة فإن الماضي لا يفني لكنه لا يعيش بيننا. والمستقبل غير موجود لكنه ما ينتظرنا. وعلينا أن نختار بين الغائب والحاضر، بين اليقين والشك.  


ختاما فإنه ورغم ما أصاب وقد يصيب المصالحة من وهن لا يجب التفريط فيها. فالمصالحة ليست رواتب ولا امتيازات ولا تعني الحفاظ على مكتسبات الانقسام بل هي مصلحة المواطن وحياته، هي الوصول إلى قواسم مشتركة وفهم موحد ورواية واحدة عن الأحلام التي نبحث عنها. حين نفهم ذلك ونعمل على تحقيقه نكون وصلنا إلى صفاء الوطنية الخالصة.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد