بعد أحداث أيلول 2001، التي ضربت برجي التجارة العالمية في مدينة نيويورك أعلنت الإدارة الأميركية برئاسة جورج بوش الابن، أن الإرهاب هو العدو الأول الذي ينبغي على المجتمع الدولي مواجهته. 


حينذاك كانت "القاعدة" هي الشاخص الذي يتصدر عناوين ما تصفه الولايات المتحدة بالجماعات الإرهابية. كان معلوما لدى المراقبين أن الولايات المتحدة لا تزال تعمل على أساس قواعد النظام العالمي الجديد، الذي أعلنه الرئيس جورج بوش الأب بعد "عاصفة الصحراء" العام 1991، وبقيادة متفردة من قبل الولايات المتحدة. 


وكان ذلك أيضاً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية العام 1989، ما فرض على الإدارة الأميركية أن تختلق عدواً جديداً بعد سقوط عدوها التقليدي الذي كان يتمثل بالمنظومة الاشتراكية. 


كان لا بد للولايات المتحدة من أن تخترع عدواً، لكي تمارس سياستها العدوانية لإضعاف خصومها، واحتكار قيادتها للعالم الجديد، بهدف نهب المزيد من الثروات، وفرض الخاوات، وتوسيع دائرة وجودها العسكري والأمني في عديد المناطق.


"القاعدة" من اختراع الولايات المتحدة، بالرغم مما قد يبدو من تطرفها الديني والسلوكي، وحين ضعف بريق القاعدة، بحيث لم تكن قادرة على تبرير التوسع الأميركي، جرى اختراع "داعش"، و"النصرة"، وجماعات أخرى. 


ولكن خلال هذه الفترة التي شنت فيها الولايات المتحدة حروباً على العراق وأفغانستان على اعتبار أن "القاعدة" في أفغانستان، ونظام الراحل صدام حسين في العراق، واتضح لاحقاً أنها مفبركة الأعذار لغزو العراق، كانت روسيا والصين، تتقدم بشكل حثيث نحو اكتساب المزيد من القوة وتعزيز منافستها للولايات المتحدة.


لا شك أن الولايات المتحدة، التي تكبدت معظم تكاليف تلك الحروب، قد نجحت في قيادة تحالفات دولية واسعة، لكنها رفضت الاعتراف بشراكة الآخرين عند تفصيل المصالح إذ احتكرتها لنفسها، ما أثار امتعاض بعض إن لم يكن معظم الشركاء خاصة الأوروبيين.


في الأيام الأخيرة أعلنت الإدارة الأميركية عن استراتيجيتها الدفاعية للمرحلة المقبلة، حيث اعتبرت أن الصين وروسيا هما عنوان صراعها اللاحق وليس الإرهاب، مع أن الإرهاب لا يزال موجوداً وفاعلاً وخطراً، لكنه لا يشكل خطراً حقيقياً على الولايات المتحدة وإسرائيل.


ومع أن مهازل التاريخ تسمح لأكبر دولة استعمارية على وجه الأرض أن تتحدث عن سياسة دفاعية، وهي في جوهرها هجومية عدوانية، أنانية، إلاّ أن مثل هذا الإعلان يشكل اعترافاً صريحاً بتراجع دور ومكانة الولايات المتحدة في الشؤون الدولية.


سبق الولايات المتحدة في مجال الادعاء بالدفاع، دولة إسرائيل التي تتسم بالعنصرية وممارسة إرهاب الدولة، والدولة التي تحتل فلسطين وأجزاء من الجولان السورية، ولبنان، وتواصل ممارسة الإرهاب داخل وخارج فلسطين المحتلة يشهد على ذلك عشرات القادة الفلسطينيين والعرب الذين تعرضوا للاغتيال في أكثر من بلد على يد "الموساد" الإسرائيلي.
الاستراتيجية الدفاعية الجديدة للولايات المتحدة تنطوي على اعتراف صريح أساسي، وهو أن النظام العالمي الذي أعلنه جورج بوش الأب قد انهار وانتهى، إلى عالم متعدد الأقطاب، قد تفشل السياسة الأميركية في إعادة استقطاب أوروبا التي تبدي مواقف وسياسات أكثر استقلالية بسبب الأنانية الأميركية.


إذا كان الإعلان الأميركي عن تراجع خطورة الإرهاب، وتقدم الصين وروسيا على رأس القوى التي تنافس الولايات المتحدة، وتشكل خطراً على مكانتها ودورها ومصالحها، فماذا سيكون الموقف من دول مثل كوريا الشمالية وإيران اللتين اعتبرتهما الولايات المتحدة أخطر راعيتين للإرهاب؟


هل تحتسب الإدارة الأميركية هاتين الدولتين على الخطر الذي تشكله الصين وروسيا، أم على الإرهاب، وهل سيشكل ذلك فرقاً لدى السياسات الإقليمية ومنها الإسرائيلية التي تضع إيران على رأس قائمة أولوياتها؟


وإذا كانت الصين وروسيا هما العدوّين الأخطرين اللذين تكرس الولايات المتحدة سياستها وجهدها لمواجهتهما فكيف يمكن تحقيق ذلك دون أن تتكبد خسائر باهظة أم أنها ستخوض حروبها ضد هؤلاء بالوكالة، وعلى حساب الآخرين ومن هم الآخرون الذين يمكن أن يفتحوا خزائنهم لصالح الولايات المتحدة وحروبها؟


الإرهاب لا يزال موجوداً، ويشكل خطراً داهماً على الكثير من دول المنطقة، خصوصاً العربية دون أن نستثني نشاطه في دول أوروبا الغربية ولكن على المعنيين بالأمر أن ينتبهوا إلى أن الولايات المتحدة ومعها إسرائيل هما اللتان لا تزالان تلعبان بالجماعات الإرهابية وتحركانها، وتحددان أهدافها التي لا تخلو من سياسة إضعاف وإفقار الآخرين.


من المؤسف أن يكون هناك من يراهن على الولايات المتحدة وإسرائيل في حماية استقرارها وأمنها، ذلك أن التحالف الإسروأميركي يلعب على الحبلين من ناحية يظهر وكأنه مدافع عن استقرار الدول ومن ناحية أخرى يحرك أسباب وعوامل التهديد والخطر ضد الدول ذاتها التي تتوهم الحماية من قبل هذا التحالف.


العالم يتغير، وتتغير معه طبيعة التناقضات الرئيسة والثانوية، وأيضاً طبيعة التحالفات والمصالح، والعلاقات، ولم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تحتكر القوة والتأثير، ولعلّ التصويتات التي شهدتها ساحة الأمم المتحدة مؤخراً على خلفية قرار ترامب بشأن القدس ، خير دليل على التراجع المستمر لدور ومكانة ومصداقية التحالف الأميركي الإسرائيلي.


عجلة التاريخ لا تعود إلى الخلف، ولا تستطيع الولايات المتحدة ترميم الآثار الاقتصادية التي ترتبت على الحروب والمغامرات الأميركية، التي كبدتها خسائر فادحة كانت واحدة من أسباب الأزمة الاقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة العام 2008 واستمرت لسنوات.


لعلّ الأهم في كل ذلك، هو ضرورة أن يعي العرب مصالحهم وأن يقرؤوا المستقبل بصورة موضوعية لكي يحددوا مكانتهم وأدوارهم ومصالحهم إذ إن من يعتمد على الخاسر هو خاسر، أيضاً، في النهاية. 


وإذا كانت للولايات المتحدة، أجنداتها التي تحددها مصالحها، فإن على العرب أن يغلقوا خزائنهم أمام محاولات الإدارة الأميركية، ابتزازهم وخوض معاركها على حسابهم.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد