تم التوصل إلى اتفاق أوسلو عام 1993، بما يحمل من سلبيات وما أكثرها، ومن إيجابيات وما أقلها، ولكن نتائجه فرضتها الانتفاضة الشعبية الفلسطينية عام 1987، التي أرغمت إسحق رابين على الإقرار بوجود الشعب الفلسطيني والاعتراف بممثله الشرعي منظمة التحرير وبحقوق الشعب الفلسطيني على أرض وطنه الذي لا وطن له سواه، على أن يكون الاتفاق بمثابة نوايا حسنة بين الجانبين، وأن تكون تطبيقاته تدريجية متعددة المراحل، بدءاً بالاعتراف المتبادل، مروراً بتنفيذه على الأرض عبر الانسحاب الإسرائيلي من المدن الفلسطينية، من غزة وأريحا أولاً، وعودة أكثر من 320 الف فلسطيني مع الرئيس الراحل ياسر عرفات، وولادة السلطة الوطنية كمقدمة لقيام الدولة المستقلة، وانتهاء بمعالجة القضايا الجوهرية: القدس ، اللاجئين، المياه، الأمن وغيرها من العناوين المؤجلة .


في كامب ديفيد تموز 2000، جرت مفاوضات القضايا الجوهرية النهائية برعاية الرئيس كلينتون بين ياسر عرفات وايهود باراك وفشلت بسبب قضيتي القدس واللاجئين، فعاد أبو عمار من كامب ديفيد وفي رأسه العمل على تغيير موازين القوى السائدة، وممارسة الضغط عبر انتفاضة ثانية تفجرت في نهاية العام 2000 لإجبار الإسرائيليين نحو الاستجابة لحقوق شعبه بشأن القدس واللاجئين، فتحالف مع حركة حماس ووضع يده بيد أحمد ياسين .


في قمة بيروت عام 2002، أقدم قادة العرب في غياب الرئيس الفلسطيني المحاصر في رام الله من قبل شارون، أقدموا على جعل قضية اللاجئين موضع مساومة بقبولهم حلاً متفقاً عليه لقضية اللاجئين أي أنهم تنازلوا مجاناً ومسبقاً عن شرط حق عودة اللاجئين وفق القرار 194، مقابل التوصل إلى تسوية للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبسبب إصرار أبو عمار على التمسك بقضيتي القدس واللاجئين، تم اغتياله وهكذا غاب عن المشهد السياسي، لأن قادة اليمين الإسرائيلي المتطرف وعلى رأسهم نتنياهو لم يقبلوا بأية تسوية على أرض فلسطين، وما زالوا، وحتى مبادرة شارون بالرحيل عن قطاع غزة عام 2005 تحت ضربات الانتفاضة الثانية الموجعة لم يقبلوا بها، فالحل بالنسبة لهم خارج فلسطين لا على أرضها.


وهكذا سارت الأحداث لصالح العدو الإسرائيلي باتجاهين : الأول عبر المسار الفلسطيني بإحداث الحسم العسكري والانقلاب والانقسام عام 2007 الذي استمر لأكثر من عشر سنوات عجاف، والثاني عبر المسار العربي بالحروب البينية العربية منذ عام 2011 التي دمرت العراق وسورية وليبيا واليمن ومن قبلها الصومال ومن بعدها استنزاف مصر وإشغالها بمقاومة الإرهاب، وتجويع الأردن، وتدمير قدرات الخليجيين المالية، وتشغيلهم بإيران باعتبارها العدو المتربص لهم على طريقة الحرب الإيرانية العراقية التي دمرت قدرات البلدين المسلمين المتجاورين، وهي أحداث لم تكن بريئة عن المخططات الإسرائيلية، وها هي إدارة الرئيس الأميركي ترامب تستكملها، خدمة مباشرة للعدو الإسرائيلي وتوجهاته بشكل خاص نحو القدس واللاجئين، ونقل دور واشنطن من موقع الانحياز للمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي إلى موقع الشريك في تنفيذ أهدافه العدوانية ضد المشروع الوطني الديمقراطي الفلسطيني وتطلعاته المشروعة.

النفاق الأميركي
يهتم الرئيس دونالد ترامب بأحوال المتظاهرين الإيرانيين ضد حكومتهم، ويحتج على إجراءات حكومة طهران لكبح جماح المتظاهرين، باعتبارها معالجات قاسية بحقهم، بينما حكومة المستعمرة الإسرائيلية ترتكب كل الموبقات الإجرامية المنافية لحقوق الإنسان، والمتعارضة مع القيم البشرية، والمتصادمة مع قرارات الجمعية العامة، واليونسكو، ومجلس الأمن وكافة مؤسسات الأمم المتحدة، ومع ذلك لم يصدر عنه مجرد لفتة بسيطة، أو تنبيه لحكومة نتنياهو الاستعمارية، على ما تقترفه بحق الشعب العربي الفلسطيني.
حكومة المستعمرة الإسرائيلية، تعتقل الأطفال وتعذبهم وشواهدها علنية، ومظاهر التعذيب بائنة على أجسام الأطفال الغضة الطرية كما حصل للطفل طارق أبو خضير، وتعتقل عهد التميمي وهي دون السن القانوني مثلها مثل العشرات من الفتيات، ويتضامن معها المجتمع الدولي بمن فيهم بعض الإسرائيليين العقلاء من ذوي الضمير، ويُرسل 63 شابة وشاباً من اليهود الإسرائيليين رسالة لحكومة نتنياهو يرفضون التجنيد لأن جيش المستعمرة الإسرائيلية يضطهد شعباً بأكمله ويظلمه، ومع ذلك لا موقف أميركيا من قبل إدارة ترامب بما ينسجم مع القيم الأميركية وقوانينها.


نفاق أميركي يتدنى إلى مستوى أفعال رؤساء منبوذين في افريقيا، وعسكر أميركا اللاتينية المرفوضين، وقادة أنظمة فاشية مهترئين، يتصرف رئيس البيت الأبيض دونالد ترامب، بلا أي وازع من ضمير مثله مثل رموز المستوطنين المستعمرين الذين انتقلت عائلاتهم هروباً من اضطهاد النازيين وجرائمهم، فجاؤوا ليمارسوا جرائمهم المشينة بحق الفلسطينيين.
ترامب المنافق يحتج على وسائل وأساليب ردع حكومة طهران بحق المتظاهرين المحتجين، ويصمت بل ويشجع سلوك وممارسات قادة المستعمرة الإسرائيلية بحق الفلسطينيين أهالي كنائس المهد والبشارة والقيامة وأصحابها بلا أي أخلاق وبدون أي رادع قيمي.

تشتيت الاهتمام عن فلسطين
تُحذر السفيرة الأميركية لدى مجلس الأمن أن إيران تخرق قرار مجلس الأمن الخاص بالاتفاق النووي، وقد يكون ذلك صحيحاً، وقد تكون محقة، وأقول قد ولا أجزم، ولكن إذا كانت محقة، وأن إيران تخرق قرارات مجلس الأمن، فماذا تعمل حكومة تل أبيب ؟؟ كم قراراً تخرقه ؟؟ وما هو القرار الدولي الذي التزمت به حكومة تل أبيب الاستعمارية منذ استعمارها لفلسطين وحتى يومنا المشهود هذا ؟؟ .


وتقول السفيرة نيكي هيلي إن إيران تصرف المليارات لدعم الإرهاب، وماذا تفعل واشنطن غير ذلك، فهي تقدم ثلاثة مليارات وثمانمائة مليون دولار سنوياً بدءاً من هذا العام وحتى نهاية العام 2028 للمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي الذي يحتل أراضي ثلاثة بلدان عربية، ويقمع شعبا بأكمله، ويخرق كافة قرارات مجلس الأمن بدءاً من القرار 242 الصادر عام 1967، وليس انتهاء بالقرار 2334 الصادر في نهاية العام 2016 يوم 23/12/2016 بل هي ورئيسها ينتهكان قرارات مجلس الأمن الخاص بالقدس، حينما يعترفون بمدينة القدس العربية الفلسطينية، الإسلامية المسيحية، عاصمة لإسرائيل، وهي التي عطلت مشروع قرار المجموعتين العربية والإسلامية المقدم إلى مجلس الأمن يوم 22/12/2017، بشأن القدس باستعمالها حق الفيتو ضد 14 دولة باقي أعضاء مجلس الأمن، لذلك من يتبجح في مطالبة إيران بالالتزام بقرارات مجلس الأمن، وإن كان موقفهم ومطالبتهم صحيحة، عليه أن يلتزم أولاً وقبل غيره بقرارات مجلس الأمن وهم أعضاء فيه، حتى يشكلوا نموذجاً يُحتذى أمام الشعوب والبلدان الأخرى، لا أن يتهربوا من التزاماتهم لصالح المستعمرة الإسرائيلية !! ".


الاهتمام الزائد بما يجري في إيران، إضافة لكونه تدخلا في الشؤون الداخلية لإيران، ليس بريئاً عن سياسة تشتيت الاهتمام بما يجري على أرض فلسطين من انتهاكات وجرائم بحق الشعب العربي الفلسطيني على يد قادة المستعمرة الإسرائيلية من العسكر والأمن وأحزاب الائتلاف الحاكم الذي يدير حكومة المستعمرة الإسرائيلية برئاسة نتنياهو ومعه ليبرمان وبنيت وأردان وأليكن وباقي طاقم الفريق الصهيوني المتطرف.


تفكيك " الأونروا "
كما فعلها ترامب بشأن القدس، ها هي إدارته تعمل على إضعاف وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "الأونروا" من خلال حجب المساعدات والتبرعات وجعلها عاجزة عن مواصلة مهامها وتأدية وظيفتها نحو اللاجئين الفلسطينيين، الذين يمثلون نصف الشعب الفلسطيني المشرد خارج وطنه ويفوق عددهم ستة ملايين نسمة .
لقد تأسست "الأونروا" كمنظمة متخصصة منفردة في عملها بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 302 الصادر يوم 8/12/1949، وبدأت عملها في 1/5/1950، بهدف معالجة تداعيات الاحتلال الإسرائيلي الأول، وتشريده أكثر من 750 الف لاجئ فلسطيني، والعمل على تلبية احتياجاتهم الإنسانية من تعليم وعلاج وتنمية، إلى حين عودتهم لبلدهم، وقد تضاعفوا مع مرور الزمن بدون المعالجة المطلوبة باتجاه عودتهم إلى المدن والقرى التي طردوا منها عام 1948 .


واليوم باتت قضية اللاجئين من أبرز مظاهر الإدانة للمشروع الاستعماري التوسعي الإسرائيلي، كونها قضية حية لها تأثيراتها المباشرة على البلدان التي تستضيفهم إلى حين الاستجابة لعودتهم إلى فلسطين، خاصة وأن قرار الموافقة على عضوية تل أبيب للأمم المتحدة اشترط أولاً انسحاب قوات الاحتلال الإسرائيلي حتى حدود التقسيم وفق القرار 181، وثانياً عودة اللاجئين إلى بيوتهم وفق القرار 194 واستعادة ممتلكاتهم المنهوبة من قبل المستعمرة الإسرائيلية التي أُقيمت تعسفاً على أرض الفلسطينيين.


تقليص الدعم لـ "الأونروا" ووقف التبرع لها لا يهدف فقط إلى وقف نشاطاتها ومهمتها، وتعطيل تأدية وظائفها التعليمية والصحية والخدمية الضرورية للاجئين في مخيماتهم لدى بلدان اللجوء لبنان وسورية والأردن وداخل فلسطين، ولكن الهدف السياسي الأخطر يتمثل بشطب قضية اللاجئين، وجعلها غير قائمة بمظاهر الوكالة التي ستتحول إلى العجز وعدم القدرة، وهي توجهات سياسية مثلها مثل قضية القدس حيث تعمل الإدارة الأميركية على تنظيف طاولة المفاوضات من القضايا الخلافية المعقدة عن جدول أعمال المفاوضات النهائية، قبل أن تلتئم.


خطورة حجب التمويل عن "الأونروا" وإضعافها، أن وظيفتها تشمل ستة ملايين فلسطيني يعيشون خارج وطنهم، والهدف السياسي من ذلك شطب قضية اللاجئين وإلحاقها باللجنة السامية لشؤون اللاجئين وبالتالي دمجها مع بقية قضايا اللاجئين العمومية وإفقادها الخصوصية التي كانت تُميزها.


قضيتان حقوقيتان يعمل الرئيس ترامب وفريقه الصهيوني على شطبها من جدول الاهتمام الدولي وهما القدس واللاجئين فهل يفلح؟؟

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد