يُطلق على عصرنا مُسّمى عصر الإعلام، وأهم أدواته نقل الصورة من أي مكان إلى كل العالم في بضع ثوان أو أقل، فتؤثر في الرأي العام وتغيّر الأفكار وتبدل الانفعالات وتحوّل الاتجاهات، بما تحمله تلك الصورة من مضامين إيجابية أو سلبية ولهذا يُقال إن الصورة تساوي ألف كلمة، وفي بعض الحالات تساوي مليون كلمة كصورة عهد التميمي- أيقونة المقاومة الشعبية الفلسطينية – وهي تتحدّى جنود الاحتلال وتطردهم من بيتها، لتنضم إلى آلاف الصور المعروفة والمجهولة في مسيرة كفاح الشعب الفلسطيني، كصورة الطفل محمد الدرة وهو يُقتل في حضن والده، وصورة الطفل فارس عودة وهو يتحدى الدبابة، وصورة الطفل فوزي الجنيدي وهو يُعتقل من عشرات الجنود، وصورة الشهيد مبتور القدمين إبراهيم أبو ثريا وهو يقتحم السلك الشوكي... وغيرهم كثير ممن أصبحوا رموزاً تُجسّد مضامين البطولة والتضحية ومعاني الأمل والألم، وإرادة الثورة والحياة المتجذرة في روح شعبهم.
وصورة الفتاة الفلسطينية المناضلة عهد التميمي التي تتحدى فيها جنود الاحتلال وتصفعهم وتركلهم وتطردهم من بيتها هو نفس التحدي الذي يقوم به ألاف وعشرات ألآف الفلسطينيين في ساحات الاشتباك وميادين المواجهة ونقاط التماس ولكن بدون كاميرا توّثق تحديهم وإجرام المُحتل، وهذا ما أغضب (إسرائيل) من صورة عهد التميمي فسعت إلى الانتقام منها بحبسها ومحاكمتها والحرص على إبقائها أطول فترة ممكنة في السجن كما صرّح به قادة الاحتلال. وقد زاد الغضب بعدما انتشرت صورها المُعبّرة عن روح التحدي وعنفوان الثورة وإصرار المقاومة كملصقات على محطات الحافلات في عدد من عواصم الدول الأوروبية، وبدت مظاهر التعاطف الأوروبي معها والمطالبة بإخراجها من السجن الأمر الذي جعل قادة الكيان والزعماء الصهاينة في أوروبا للتحرك السريع من أجل المطالبة بإزالة الملصقات والقيام بحملة إعلامية مُضادة ضد عهد التميمي.
وقد يكون غضب (إسرائيل) من صورة عهد التميمي المتحدية لأنها فتاة فلسطينية شقراء، وهي ببشرتها البيضاء وشعرها الأصفر وعيناها الزرقاوين تشبه الأوروبيين فتكسب تعاطفهم معها ومع القضية التي حملتها، فالناس تميل للتعاطف بفطرتهم مع من يشبههم، وهي في نفس الوقت تناقض الصورة النمطية التي صورها الإعلام الصهيوني عن العرب عامة وعن الفلسطينيين خاصة شكلاً ومضموناً، والتي تصوّرهم بطريقة سلبية وتلصق بهم صفات التوّحش والتخلّف والإرهاب وكراهية الحياة، وتبعدهم عن صفات المدنية والتقدم والتحضر وحب الحياة. وهذا ما جعل المؤرخ الإسرائيلي والسفير السابق مايكل اورين يُنكر في إحدى تغريداته بالانجليزية على تويتر أن تكون عهد التميمي فلسطينية مُدّعياً أن الفلسطينيين أصبحوا يجندون أجانب للنيل من (إسرائيل).
وقد يكون غضب (إسرائيل) من صورة عهد التميمي الثائرة لأنها تعكس الصورة التي حاولت ترسيخها في أذهان الغرب، وهي صورة الضحية المجني عليها دائماً من الوحش النازي ثم الجيوش العربية ثم (الإرهاب الفلسطيني)، لتضعها أمام صورتها الحقيقية ممثلة في الجلاد المُدجج بالسلاح والمجرم الطافح بالحقد أمام الشعب الفلسطيني الضحية الذي تمثله صورة عهد التميمي وهي تطرد الجنود من بيتها لا تملك إلى جسدها الصغير تُلقي به في وجه عدوها فيصبح كبيراً بروحها النضالية وإرادتها الوطنية وغضبها الثوري. فالصورة هنا تعزز انقلاب مشهد الضحية الذي أتقنوا تمثيله على العالم ليجلب لهم التعاطف والمال وليعطيهم المبرر لممارسة أبشع جرائمهم وكل مذابحهم. فالصورة الجديدة التي بدأت تترسخ منذ الانتفاضة الأولى وجسدتها صورة عهد التميمي جاءت لتبطل روايتهم الكاذبة من جذورها وتهدم دعايتهم الخادعة من أساسها.
وقد يكون غضب (إسرائيل) من صورة عهد التميمي الغاضبة كونها تكشف معضلة الاحتلال الأمنية في التعامل مع الشعب الفلسطيني المنغرس في أرضه كشجر الزيتون، وتظهر مأزق الكيان الوجودي في عدم قدرته على التخلّص من أصحاب الأرض الحقيقيين الذي زعم أنهم غير موجودين لتهدم أساس الفكرة الصهيونية بأن فلسطين أرض بلا شعب. وهذا المأزق الذي عبر عنه قادة ومفكري المشروع والكيان الصهيوني معبرين عن القلق الوجودي وعُصاب المصير، "والخشية من زوال إسرائيل في المستقبل"، "والشك في استمرار وجود إسرائيل على المدى البعيد" و" إسرائيل غيتو يحمل بذور زواله في ذاته". وهذا المأزق الوجودي بدأ منذ نشأة الكيان الصهيوني غير الطبيعية وغير الشرعية، وازداد عمقاً بعد أخر الانتصارات الإسرائيلية الواضحة عام 1967، وهو من ذلك الحين يعيش حالة انكماش كمشروع استعماري رغم كل مظاهر القوة الزائفة غير الذاتية المستمدة من ضعف العرب وقوة الغرب.
هذا الذي أغضب (إسرائيل) من صورة عهد التميمي وغيرها من صور النضال الفلسطيني المُشرّفة باعتبارها رمزاً لروح الشعب الفلسطيني الثورية وإرادته الوطنية التي ترفض الذل وتأبى العبودية وتقاوم الاحتلال وتصر على نيل الحرية والكرامة والاستقلال ولا ترضى بأقل من اقتلاع جذور الاحتلال وإزالة دولته وتطهير فلسطين من رجس الصهيونية.
جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية