رغم معرفة الجميع بأن الرئيس الأميركي له من مواصفات العناد والغطرسة ما يكفي ويزيد على كل حد، إلاّ ارتطام موضوع القدس بحائط الصدّ الفلسطيني والذي تحوّل إلى حائط صدّ عربي وإسلامي ودولي بات «يُحتِّم» عليه (أي الرئيس الأميركي) أن يبحث عن أحدٍ ما، أو جهة ما تنزله عن الشجرة، إذا أراد فعلاً أن يلعب أي دور قادم من أي نوع كان في صراع الإقليم وحيال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تحديداً.


فعندما تُصوّت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأكثرية الثلثين ضد قراره، وعندما يأتي هذا التصويت بعد كل التهديدات غير المسبوقة في تاريخ الدبلوماسية العالمية، وعندما تصل الأمور إلى أعلى درجات «الإساءة» إلى الدول التي تحتاج المساعدات الأميركية لتوفير لقمة الخبز، فإن الإدارة الأميركية باتت بحاجة ماسة لمن يُخلِّصها من هذه «الورطة» التي تجد الولايات المتحدة نفسها وقد أصبح حالها حال (الواوي الذي بلع المنجل).


وإذا رجعنا قليلاً إلى الوراء وتمعّنا في دلالات استقبال الرئيس الفرنسي للرئيس الفلسطيني (من حيث الحفاوة ومن حيث المضمون) فإننا ببساطة نستنتج بأن ورطة ترامب «ستنهش» من دور الولايات المتحدة على المدى المباشر، وربما المتوسط ايضا اكثر مما تصوره الرئيس ترامب وحاشيته «الاستشارية» وبعض الغلاة والمتطرفين من الدائرة المحيطة مباشرة بتلك الحاشية.


ولن ينقذ الرئيس الغواتيمالي أو دولة جنوب السودان أو حتى دولة هنا وأخرى هناك ممن هم «أهمّ» كثيراً أو قليلاً الرئيس ترامب من متاهته الجديدة.


الرئيس ترامب يهدد لأن لديه بعض الأوهام ـ والأصحّ القول بواقي أوهام ـ بجدوى هذه التهديدات مع القيادة الفلسطينية، وربما أنه يرى في المساعدات الأميركية للسلطة الوطنية مجالاً لممارسة ضغط «فعّال»، وكذلك التهديد بمقاطعة القيادة الفلسطينية وحصارها سياسياً، إضافة بطبيعة الحال لما يتصوره الرئيس ترامب من قدرةٍ «مؤكّدة» على استخدام نفوذه لدى بعض دول الإقليم العربي والإسلامي لثني هذه القيادة عن مواجهة قرار ترامب والتصدي له وصولاً إلى تحييد أية آثار مترتبة عليه.


كما لا يمكن التغاضي عن نوع آخر من التهديدات المبطنة والتي «تعوّدنا» عليها وهي البحث عن قيادة بديلة تكون مستعدة للتعاطي مع « صفقة القرن »، ولديها الجاهزية التامة للانخراط فيها.


الحقيقة أنه لا يوجد كاتب واحد يُعتدّ برأيه ممن يتابعون شؤون المنطقة والإقليم، وممن هم خبراء معترف لهم بالإحاطة والدراية بالشؤون الدولية وحتى الشؤون الأميركية نفسها من يتفق مع ترامب بجدوى هذه المراهنات وهذه التهديدات، بل أن الغالبية الساحقة من هؤلاء يعتبرون الاستمرار بهذا النهج سيجلب على ترامب المزيد من المتاعب وسيعمِّق الأزمة التي خلقها بنفسه، وحتى الأصوات الإسرائيلية واليهودية التي تحفّظت في البداية على «مخاطر» القرار الأميركي (والأصحّ القول قرار الرئيس الأميركي) أصبحت شيئاً فشيئاً تعبّر عن خشيتها من تداعيات القرار.


كما لا يوجد زعيم سياسي واحد (ممن لهم مكانة رهيبة ودولية) إلاّ ورأى في قرار ترامب خطأً أو خطيئة، فيها من الخرق للقانون الدولي ما يثير الاستغراب والاستهجان عدا عن الرفض والاستنكار.


وعندما نتحدث عن الداخل الأميركي نفسه فالمسألة تتعلق باللحم الحيّ للرئيس ترامب، وهو بات يدرك مدى الضرر الذي لحق به حتى الآن والضرر الذي سيلحق به مع ظهور تداعيات قراره على المستويات كافة.


والحقيقة الأخرى هو أن الرئيس أبو مازن حدد سقفاً سياسياً تبنّاه المجتمع الدولي عموماً، وأصبح هذا السقف هو الحدّ الفاصل للموقف الوطني، وتحول هذا السقف إلى قيد على كل من كان يحاول المهادنة فيه وحوله، أو تجاوزه أو تعويمه.


والحقيقة الثالثة أن الحقيقة الفلسطينية عادت للترسُّخ أقوى من أي وقتٍ مضى، وتحولت القضية الفلسطينية في غضون أيام قليلة إلى قضية القضايا، وإلى أمّ الصراعات، وإلى أصول وجوهر السلم والأمن في كامل الإقليم، الذي اشتعل وما زال يشتعل، وهو أبعد ما يكون عن الاستقرار بدون حل هذه القضية كما ثبت بالوقائع الملموسة.


أما الرابعة، فان أحداً في هذا العالم لا يصدق بأن الولايات المتحدة يمكن أن تعود لتلعب الدور الذي كانت تلعبه في «العملية» السياسية للصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وان آلية جديدة باتت ليس فقط مطلوبة وإنما مفروضة تحت مظلة الأمم المتحدة، وبمشاركة مباشرة من قوى دولية مختلفة متعددة الأقطاب للقيام بالدور الممكن مستقبلاً.


وبما أن الولايات المتحدة تمثل «موضوعياً» أحد هذه الأقطاب، ولكونها قد لعبت الدور المتفرد على مدار أكثر من عشرين سنة (دون طائل يذكر) فمن غير الممكن عدم عودة الولايات المتحدة لتلعب دوراً ما في هذا الإطار، وليس متصوراً أن تغيب بالكامل عن هذا المشهد، الأمر الذي يعني بأن أحداً ما يجب أن يتبرع بإنزال الإدارة الأميركية والرئيس ترامب تحديداً عن الشجرة.


الدول المرشحة لهذا الدور موجودة وجاهزة.


المهم أن يكون الرئيس ترامب جاهزاً مع وعدٍ يحفظ ماء الوجه إذا كان هذا هو ما يحول دون هذا النزول...، وإذا كان ماء الوجه سيعوّض الولايات المتحدة عن الخسارات التي ترتبت على قرار رئيسها.

جميع المقالات تعبر عن وجهة نظر أصحابها وليس عن وجهة نظر وكالة سوا الإخبارية

اشترك في القائمة البريدية ليصلك آخر الأخبار وكل ما هو جديد